بقلم: عبد السلام رجواني

كمم، يكمم، تكميما: وضع كمامة على فم غيره لمنعه من الكلام او الاكل او الرضاع. وتكمم، يتكمم تكمما: وضع كمامة على فمه طوعا اتقاء ريح كريهة او نقع او فيروس؛ حفظا لصحته… وللتكميم والتكمم في ثقافتنا ولغتنا اكثر من معنى، لعل ابرزها المس بحرية التعبير وقمع الاصوات الحرة وتجريد الانسان من حق جوهري ضمن حقوقه المدنية. والكمامة في حياتنا البدوية وسيلة لحرمان الخراف والجديان والعجول الرضيعة من كامل حليب ضروع الامهات وتحويل ذاك الحليب الى افواه بني آدم، وهي ايضا اداة لمنع الدواب والمواشي من الترامي على اغراس الناس..

في صخب المدينة وزمن الديمقراطية كدنا ان ننسى هذه المادة اللغوية في كل دلالاتها الى ان انتشر بيننا هذا الوباء بتيجانه، وبدا فتكه بالارواح دون هوادة ولا طقوس. لم تجد الانسانية ملاذا آخر سوى الاحتماء بالكمامة التي صارت السلعة الاولى في عالم معولم عاجز عن وقف زحف فيروس لا لون له ولا طعم ولا لقاح، الى ان من حفدة لنين على العالمين بسبوتنيك ٧ العظيم.

وحد الفيروس اللعين العالم حول الكمامة التي صارت رديفا للسلامة، فاقبل عليها الناس من كل ملة ودين. تعددت اشكالها والوانها، وتفاوتت اثمانها بتفاوت جودتها … فكان للاغنياء كمامات انيقة من قماش راق، يسيرة الاستعمال وكان للفقراء كمامات رخيصة، رديئة، تحبس الانفاس وتقرص الأذنين… وفي ذلك ايضا شيء من التفاوت الطبقي وصراع الطبقات.

وفي التعامل مع الكمامة اختلفت الشعوب والمجتمعات وتبينت الفروقات الحضارية والثقافية بين امم واعية، عقلانية، تحترم القانون وتقدس الحياة، وامم وشعوب ما زالت تحكمها الغرائز والعواطف ويميل افرادها الى التهور واللامسؤولية والاستهتار بالقانون وبالحياة. في السويد والدانمارك وفلندا وغيرها من المجتمعات الراقية كان سلوك المواطن حاسما في مواجهة الوباء فحافظوا على حيوية الاقتصاد واستمرار الحياة، بينما كان سلوك السواد الاعظم من مواطنينا ومواطناتنا غريبا وصادما… ولم يرق الى الجهود التي بذلتها السلطات المغربية قبل وقوعها في الخطا الجسيم الذي عصف بكل الجهود، وهو خطا مزدوج تمثل في الدعوة الى دعم السياحة الداخلية ورفع الحواجز بين الجهات والاقاليم والمدن، وفي عدم تعليق عيد الاضحى بكل طقوسه القبلية والبعدية. واذا كانت مسؤولية الحكومة ثابتة في ما آلت اليه الوضعية الوبائية نتيجة سوء تقدير فان مسؤولية المواطنين والمواطنات ثابتة ايضا: قوم لم يرتادوا كمامة، وقوم وضعوها دون ذقونهم كما تضع النساء سوار العقيق تزينا، وقوم وضعوها بجيوبهم تحسبا لمراقبة فجائية على الطريق… اغلب الناس لم يعيروا التعليمات الاحترازية اهتماما، لا يتباعدون ولا يغتسلون، ولا هم يحزنون لمواكب الموتى وانين المرضى… صم، بكم، عمي، لا يسمعون ولا يبصرون.

هذه السلوكات المشينة تحمل اكثر من معنى، اولها افلاس نموذج تنشئوي، تربوي واجتماعي وسياسي، في زرع قيم المواطنة الحقة، ثانيها غياب وعي صحي وقاية وعلاجا، ثالثها انعدام الثقة في الاعلام الرسمي، ورابعها تفشي العدمية الاجتماعية نتيجة ما سبقها من عدمية سياسية….

امام هذه الآفة نؤكد مرة أخرى على ضرورة تعبئة وطنية شاملة لكل مؤسسات الدولة والمجتمع حول استراتيجية قوامها التوعية الناضجة واعتماد التواصل المباشر والدائم مع المواطنين في الاحياء والمعامل والاسواق…. ان مقاربة الردع غير قادرة على تصويب سلوك اناس لم ينشؤوا على قيم المواطنة، وتربوا على الغش واحترام الشكل بدل تمثل المعنى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *