بقلم. فاطمة الزهراء الراجي

 

القهوة جغرافيا، رائحتها عودة وإعادة إلى الشيء الأول. كلمات للشاعر الفلسطيني محمود درويش تصف حبه للقهوة. وإذا كان حبها أثير عند الملايين عبر العالم، فإنها بالنمسا وبمقاهي فيينا تحديدا معتقة بطعم الذاكرة وعبق التاريخ.

الحديث عن تاريخ فيينا يستدعي بالضرورة استحضار تاريخ مقاهيها، التي يعد ارتيادها طقسا راسخا بيوميات أهل المدينة، سواء لاحتساء قهوتها الأثيرة أو للقاء والمطالعة والاستمتاع بالموسيقى، أو حضور ندوات ونقاشات سياسية وفكرية وفعاليات ثقافية.

وما تزال مقاهي فيينا تحافظ على رونقها وطابعها العريق، وقد ارتبط غالبيتها ببعض الأحداث التاريخية الهامة وأشهر الشخصيات الفنية والسياسية التي دأبت ارتيادها خلال فترات معينة.

وبحسب بعض الروايات التاريخية، فقد تأسست أولى مقاهي العاصمة النمساوية بعد الحصار التركي الثاني للمدينة في العام 1683، بعدما استلهم عدد من الجنود البولونيين بعضا من عادات الأتراك في صناعة وتحضير القهوة.

ومنذ ذلك العصر ارتبطت حركية مقاهي فيينا بأهم الأحداث السياسية التي شهدتها المنطقة، وقد عرفت أوج ازدهارها بعد انعقاد مؤتمر فيينا ما بين 1814 و1815 حين أصبحت قبلة للاحتفالات والصالونات الفاخرة، سنوات قليلة قبل تأسيس الإمبراطورية النمساوية المجرية.

وجاءت فترة الازدهار هاته بعد مرحلة تردت فيها أوضاع مقاهي المدينة، تلت هزيمة نابليون للنمسا في سنة 1797، وقد ارتأى مسيروها خلال هذه الفترة توسيع نشاطها ليشمل الوجبات السريعة بهدف زيادة المداخيل.

كما شهدت خلال هذه المرحلة بعض “الانفتاح” في طقوس ارتيادها، خاصة بالنسبة لسيدات الطبقة البرجوازية اللائي بدأن ارتياد المقاهي بمفردهن دون الحاجة إلى مُرافق، باعتبارها إحدى أهم القواعد آنذاك.

وما تزال مقاه بمحيط قصر “الهوفبورغ” الرئاسي بفيينا تتغنى بزيارات الإمبراطور وكبار المسؤولين بالدولة وأشهر المفكرين والفنانين والسياسيين لها، ومن أشهرها مقهى “ديميل” الذي كان المفضل لدى الإمبراطور النمساوي وزوجته وضيوفه، والمقهى المركزي “كافي سونترال” الذي اشتُهر بالمقهى الأدبي وكان مصدر إلهام لكبار الأدباء والفنانين والسياسيين النمساويين.

وما تزال باحة المقهى المركزي، حاليا، تحافظ على تصميم قاعات القصر الإمبراطوري بأعمدتها الشاهقة وأثاثها التقليدي الفاخر.

من مقاهي فيينا الذائعة الصيت أيضا نجد مقهى “لاندتمان” الذي كان المفضل للطبيب النفسي الأشهر النمساوي سيغموند فرويد، كما اشتهر بلقاءات العملاء والجواسيس خلال فترة الحرب الباردة، وما يزال قبلة للسياسيين والبرلمانيين بحكم قربه من مقار البرلمان والقصر الرئاسي وبعض الأحزاب النمساوية.

وكان الموسيقار الألماني بيتهوفن من أشهر رواد هذه المقاهي، والذي اشتهر بإدمانه على القهوة، وكان بحسب الرواية المتداولة يحرص على وضع 60 حبة بن بكل فنجان عوض 30 حبة في المعتاد.

وإلى جانب طابعها العريق وحمولتها التاريخية، تحرص مقاهي فيينا على الحفاظ على طقوس وتقاليد متوارثة لاحتساء القهوة أو الشاي، سواء من حيث مواعيد أو طريقة التقديم وكذا لباس العاملين بها والأواني المرافقة لها.

وللحفاظ على هذا الزخم والتعريف به، افتتح فردينايد راينر في العام 1899 متحفا للقهوة بتصميم فني يبرز مراحل تطور ثقافة المقاهي بفيينا، والذي سرعان ما أصبح قبلة لأشهر الفنانين والطلاب ورجال الأعمال بالمدينة، قبل أن تتولى عائلات من أشهر صانعي القهوة تدبيره خلال الحربين العالميتين.

عن هذا المتحف الفريد، قال رئيسه وأمينه كارل شيلينغ، إنه “تجسيد دقيق لتاريخ القهوة والمقاهي في فيينا”، كما يقدم نظرة معمقة عن ثقافة القهوة بالمدينة والتي أدرجتها اليونسكو ضمن قائمة التراث الثقافي اللامادي.

وفي حديثه لوكالة المغرب العربي للأنباء، أكد كارل شيلينغ أن المتحف/المقهى كان ولا يزال مكانا للقاءات المتميزة وملاذا للفارين من صخب المدينة، في فضاء يحفل بتفاصيل من الذاكرة والتاريخ، ويحافظ على طقوس عريقة لتقديم وعرض القهوة.

وأوضح شيلينغ أن المتحف أصبح بدءا من سنة 2011 مركزا يوفر معطيات نادرة عن القهوة وطريقة تحضيرها من الحصاد إلى الاستعمال والتخمير، وتطور آلات ومعدات صناعتها عبر العصور.

وهكذا، تأبى مقاهي فيينا إلا أن تحافظ على جزء من تاريخ وثقافة هذه المدينة ووهجها الذي لا ينطفئ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *