بقلم: خالد أدنون

حتى لا يأتيه الباطل لا من يمينه ولا من شماله …!

“قل لي ما تعليمك أقول لك من أنت، وقل لي ما مشاريعك التعليمية أقول لك من ستكون ” هذه المقولة قد تنطبق على كل الحقول والمعارف، إذ يكفي أن تغير الكلمة المفتاح (التعليم ..) في الجملة حتى تبلغ المراد. ومادمنا من أبناء صاحبة الجلالة دعونا نمارس في هذا اليوم المبارك نوعا من الرياضة الذهنية ونطبقها على حقلنا السمعي البصري لتكون النتيجة ” “قل لي ما إعلامك السمعي البصري أقول لك من أنت، وقل لي ما مشاريعك الإعلامية السمعية البصرية أقول لك من ستكون “..

في الحقيقة صعقت لما قرأت الجملة أعلاه وأحسست بخطورة الرسالة الملقاة على عاتقنا نحن معشر الإعلاميين في هذا اليوم الاستثنائي، ليس لكونه يوم الجمعة بل لأنه أيضا يوم الثالث من ماي، اليوم العالمي لحرية الصحافة !!! وعندما استحضر مفهموم الحرية دائما تسيطر على تفكيري قصة سيدنا يوسف عليه السلام أعظم سجين في التاريخ، فيها الكثير من الدروس والعبر في باب الصبر والتوكل على الله والمكائد و الغيرة والأمانة والصدق …. إنها أحسن القصص. فطرحت على نفسي سؤالا ما أحسن القصص التي سجلتها بمذكرتي بخصوص المشهد السمعي البصري المغربي Paysage Audiovisuel Marocain (PAM) الذي صار يأتيه الباطل من بين يديه ومن يمينه وشماله.

القصة الأولى، في سنة 2012 أثير نقاش واختلاف وليس خلاف بشأن المسودة الأولى من دفاتر تحملات الإعلام العمومي المغربي وطرحت معه العديد من الاشكالات المتعلقة بالحدود الفاصلة بين السياسي والمهني ومن منهما في خدمة الآخر ..أم هناك تكامل بينهما ! وهل أصبح فعلا الإعلام (خاصة العمومي) سلطة رابعة مستقلة عن باقي السلط التي بشرنا بها مونتيسكيو. لكن ما أغفله النقاش؛ وهو الأساسي في نظري؛ هو البناء الهندسي لدفاتر التحملات وما قد تحمله من نموذج إعلامي بصفته صناعة ثقافية وإبداعية.

القصة الثانية، سنة 2009/2008 تدخلت الدولة لانقاذ قناة ميدي 1 سات بعدما أصابها مس من العجر المالي أصبح من المستحيل معه أن تؤدي وظيفتها التي تضمنها الترخيص الذي صادقت عليه الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري، وللعلم فقط كانت هذه القناة أول قناة خاصة والوحيدة التي حصلت على الترخيص بعد تحرير القطاع السمعي البصري المغربي.

القصة الثالثة، قبل قرابة 17 سنة تدخلت الدولة لإنقاذ مشروع القناة الثانية التي شكلت نقلة فريدة وسبقا عربيا وحتى أفريقيا بعد قناة خاصة في جنوب افريقيا. قيل أنذاك أن القناة بدورها تعاني من مس عفريت العجز المالي، علما بأن تحليلات ترى العكس، وتذهب إلى أن القناة الثانية التي كانت وليدة نوع من التوافق واقرار التوازن بين جناحي المرحومين الفلالي والبصري، وكذا لمواكبة التحول الديموقراطي ! وفسح المجال لنخب ولاعبين جدد في المشهد الإعلامي والسياسي المغربي…ربما قد يكون قد انتهى دورها ؟

القصص الثلاث تخللتها قصص أخرى تطرح سؤالا محوريا حول المشهد السمعي البصري المغربي

(Paysage Audiovisuel Marocain PAM) باعتباره مجموعة من العناصر المميزة للإعلام التلفزيوني والإذاعي المغربي وكل ما يرتبط بها من برامج ومقدمين.. وأجناس إعلامية”. فالعبرة الأولى والأساسية من القصص تتمثل في أن القطاع العام لم يسلم بدوره من نوع خاص من المس يرتبط بجودة مضمونه وشكله، ونفس الأمر ينطبق على القطاع الخاص بل الغريب والخطير هو أن قطاعا عليلا (العام) يتدخل لانقاذ القطاع الخاص بغرفة الإنعاش…تمسك غريق بغريق..عفوا مريض بمريض، ويمكنكم تصور نهاية القصة..
إن ما يعانيه قطاع الإعلام السمعي البصري المغربي هو أزمة النموذج الاقتصادي أي ” تلك المجموعة من العلاقات المتكاملة والمتفاعلة التي تحكم أو التي يتعين أن تحكم القطاع السمعي البصري المغربي”. فلا يمكن القيام بأي مبادرة أو إنشاء قناة أو إذاعة عامة أو خاصة دون النظر والتمعن في تأثير ذلك على المشهد الإعلامي برمته وما فرص التمويل والمعوقات والبدائل المتاحة.

واستحضر بالمناسبة نقاشا دار بين أعضاء المجلس الأعلى للإعلام السمعي البصري الفرنسي سنة 2004 ، حيث كنت في دورة تدريبية وحضرت اجتماعا للمجلس ودار الحديث حول فرص إطلاق قناة تلفزيونية محلية ومدى تأثير ذلك على المشهد الإعلامي الفرسي برمته وأشدد على برمته. خلال الاجتماع قدمت دراسات حول تأثير اطلاق القناة على باقي الوسائط الإعلامية وعلى الإشهار وعلى مداخيل الصحف المحلية وووو….أين نحن من هذا كله وأين نحن من النموذج الفرنسي الذي نتلذذ؛ أو البعض منا؛ بالاقتباس منه لممارسة نوع من “الدعارة الإعلامية” !!! عفوا..

إن المشهد السمعي البصري المغربي بحاجة لنموذج اقتصادي جديد وفريد يأخذ بعين الاعتبار الخصوصية الاقتصادية المغربية وكذا الأدوار المنوطة بالقطاعين العام والخاص وتفاعلهما مع باقي الوسائط والقطاعات ضمن مقاربة متكاملة، تأخذ بعين الإعتبار التطور المتسارع لتكنولوجيا الإعلام والاتصال. والظاهر في ظل المعطيات الاقتصادية الراهنة أن الأولوية لإطلاق العنان للقطاع الخاص مع ضبطه حتى لا يهيمن منطق السوق على صناعة ثقافية من أولى أولوياتها صناعة الرأي العام….. وهنا يبرز دور الهيئة العليا للإعلام السمعي البصري ولحكماء المجلس ( وسنعود للموضوع في مقال منفصل).

إن الإعلام السمعي البصري العمومي المغربي يجب أن يتم حصر دوره في وظائف الإخبار التربية والترفيه وتهذيب دوق المتلقي والرقي به، وهي أدوار تقليدية مؤطرة بمفهوم خدمة المصلحة العامة وقيام بمهام المرفق العام مما يقتضي التكامل والتعاون بين كل الدعامات بدل التنافس وإهدار المال والجهد وبرمجة رمضان خير دليل على ذلك. و إذا ما اضفنا لمفهوم المرفق العام جرعات من الحكامة نرى أن هناك مبادرات يمكنها أن تشكل عناصر أولية لبناء نموذج اقتصادي للإعلام السمعي البصري العمومي المغربي، من بينها:

أولا: تخفيض وضبط مداخيل الإشهار في الإعلام السمعي البصري العمومي بشكل لا يتجاوز ثلث المداخيل العامة الإشهار. فالقطاع تموله الدولة ولا يمكنه أن ينافس القطاع الخاص وإلا سنكون أمام منافسة غير شريفة.

ثانيا: أن يتحول الإعلامي السمعي البصري العمومي إلى شركات بث بالدرجة الأولى وإنتاج بنسب جد ضئيلة ومحدودة، بحيث يتم إنتاج البرامج الأساسية أو ذات الأهمية القصوى كالأخبار والبرامج الحوارية داخل الاستوديوهات، أما باقي البرامج فيفضل فتح المجال فيها للقطاع الخاص وشركات الإنتاج عبر الإنتاج المشترك أو الخارجي أو التفويض، مع احتفاظ الإعلام العمومي بحق مراقبة المضمون.

ثالثا: وهذه النقطة لها علاقة بالتي سبقتها، إذا أن فسح المجال للقطاع الخاص سيحقق هدفين، من جهة الرفع من تنافسية القطاع الخاص، ومن جهة أخرى تخفيف العبء على القطاع العمومي وتمكينه من التركيز أكثر على جودة المواد المقدمة شكلا ومضمونا، مما سيفرض على المسؤولين إعادة إنتشار العنصر البشري والرفع من مهنيته وأداءه، وهذا سيقود رأسا إلى إعادة النظر في نسق العمل وسيرانه.

رابعا: خلق شركات فرعية تجارية تخضع لمنطق السوق وتكون الدولة طرفا فيها. الأولى للخدمات الإنتاجية ( الأستوديوهات والكاميرات واللوحدات المتنقلة…..) يمكنها أن تقدم أعمال للقطاع العام وكذا للقطاع الخاص. والثانية شركة الهندسة والبث ستدير وحدات البث الخارجي والبث عبر الأقمار الإصطناعية وكذا البث الأرضي. الثالثة شركة الإبداع تقوم بكل الأمور الفنية والجمالية (غرافيزم….). رابعا شركة للإعلام الرقمي أو الإعلام الجديد المتعدد الوسائط، تهتم هذه الأخيرة بتطوير المضمون الرقمي. خامسا شركة النشر والتوزيع تهتم بنشر وتوزيع الانتاجات المطبوعة. سادسا شركة توزيع المواد السمعية البصرية وتهتم بيع حقوق البرامج والترويج لها.

خامسا: فسح المجال لشركات القطاع الخاص في ما يتعلق بخدمات الدعم والمساندة عبر عقود خارجية كعقود التوريد..، فلا يمكن لمؤسسة عمومية أن تقوم بكل المهام وإلا ستغرق بقضايا جانبية ليست من صميم الصناعة الثقافية، فما المانع مثلا أن تهتم بعمليات التسويق والاتصال شركة خارجية وفق معايير جد واضحة …

كانت هذه مجرد أفكار نقترحها لعلها تجد آذانا صاغية، الهدف منها دعم وإعطاء إنطلاقة جديدة للإعلام السمعي البصري المغربي واخضاعه بدوره لمنطقي المنافسة والتجارة- المعدل. وكما قلنا كل الخطوات في هذا المجال يجب أن تكون محسوبة ومتكاملة تأخذ بعين الإعتبار تأثير كل المبادرات على مكونات المشهد السمعي البصري والإعلامي عموما. فلا حاجة لنا لقناة محلية ستستحوذ على الإشهار في جهة معينة وتتسبب في إفلاس مؤسسات إعلامية أخرى…فالإعلام رسالة وقبل هذا وذاك صناعة مواطنة ومسؤولية اجتماعية لها مقوماتها، وأبرز مقوم هو خدمة الصالح العام وتقديم مضمون جيد للمستهلك/ المشاهد-المستمع سواء أكان ذلك بمنطق تجاري أم بمنطق المرفق العام….

في كل الأحوال:

على العكس مما قد يعتقده البعض، فالحرب المقبلة هي حرب الأفكار حرب المحتوى، والإعلام بكل ألوانه فاعل أساسي فيها. فمتى ستكون للمغرب ليس مدينته ولكن مدنه الإعلامية لتسليح القطاع العام والخاص لدخول هذه الحرب.. وهذا المقال ألقيه على وجه المشهد الإعلامي المغربي ربما قد يستعيد بصره وبصيرته …!!!

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *