رشيد مشقاقة*

حاول صاحبي، جاهدا، إقناعي بأننا متى تساوينا مع الكائنات الحية التي تعيش معنا، وآثرنا مصلحتنا الشخصية دون إجهاز على مصلحة الآخر كلما أرحنا واسترحنا.. وصاحبي هذا تفرغ، بعد المغادرة الطوعية، لأشغال المقهى.. يقول مستسلما:
-رغم انتشار المقاهي تبقى مقهاي الأفضل. لم أدخل هذا الميدان عن عدم تجربة، فقد اعتدت أثناء عملي في الوظيفة العمومية، أن أقدّم القهوة لرؤسائي.. وبمقدار ماحظيت بإعجابهم بمقدار ما تدرجت، بسرعة، في سلالم -الترقية، إلى أن نصحني أحدهم قائلا:
-لم تضع موهبة تدر ربحا موفورا؟! غادر الهم الوظيفي ووظف مالك في مقهى، أنت قهوجي بامتياز، وكذلك كان!

يشرح لي صاحبي سر نجاحه ويوصيني بالاقتداء به قائلا:
-الحياة لا تتطلب منا أكثر مما تستحق: البساطة، راحة البال، الإقبال على النعم، الاستفادة من الفرص، نبذ الخصومات، نبذ الفضول، الاعتناء بالصحّة، المجاملة، ثم دع عنك التفلسف وراء جبة الثقافة والعناد.. اصمت. لا تنتقد.. لا تجادل! فمن رأيته راكبا على عصا قل له مبروك عليك الحصان.. هذا هو ديدني في الحياة وسرّ نجاحي.

ولم يكن صاحبي وحده من يسير على هذا السراط ولم يكن وحده من تفرغ لأشغال المتعة واللهو، ولم يكن وحده من لا يحمل كتابا ولا يقرأ..
لم يكن وحده من احترف المجاملة الكاذبة، ولا وحده الذي يجري جري الوحوش نحو المناصب، ومن يلهو بجد، ويراكم النجاح تلو النجاح بلا أدنى مجهود يذكر. أما مايميزه عن أمثاله فهو فقط مغادرته وظيفته في ريعان اغتنائه وهم ما زالوا بهامتشبتين!

قلت لصاحبي:
-هل تظن أنني لا أقوى على ما أنت عليه الآن؟!
-لمَ لم تفعل، إذن؟
-لأنني لا أريد أن يقول العقلاء عني…
-ماذا سيقولون، لا سمح الله؟
-سيقولون: أنا تافه إذن أنا موجود!
-تعني أنني تا…؟

لم أجب عن السؤال. أخفيت فمي في فنجان القهوة التي أعَدّها صاحبي القهوجي؛ رشفت بتلذذ. انفرجت أساريره وقال معجبا بنفسه:
قلت لك إنني نادل بامتياز، أجيد صناعة القهوة وتقديمها..
لا أشك في ذلك!

*رئيس المنتدى المغربي للقضاة الباحثين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *