تحدث التقرير السنوي للخارجية الأمريكية حول الحريات الدينية الدولية، للعام الماضي، عن ارتفاع عدد اللادينيين في المغرب، وأشار إلى أن نسبتهم وصلت 15 في المائة، وهي نسبة كبيرة، إذ تعطينا ما يناهز مليونا ونصفا من المواطنين.

لا يمكن أن نعرف نوعية العينات التي اعتمد عليها التقرير بشكل صحيح، ولا كيفية التوجه إلى أفرادها وطبيعة الأسئلة والاستبيانات، حتى يمكننا الوثوق في هذا الرقم من عدمه، ولكن الرقم عموما فيه الكثير من المبالغة. وما يعزز هذه المبالغة التصريحات التي أعطاها أحد المكلفين بالتقرير في السفارة الأمريكية بالرباط لجريدة”الصباح”، وهي التصريحات التي تكشف المستور حقيقة. هناك نقطتان ملفتتان في التصريحات، الأولى أن المعني بالأمر قال إن “هذه الأرقام مضبوطة، ومبنية على تقديرات زعماء مجتمع اللادينيين بالمغرب، والتقارير الدولية”، والثانية قوله بأن “اللادينية لا تعني بالضرورة الإلحاد، أو التوقف عن أداء الشعائر الدينية”.

بخصوص النقطة الأولى فالتقرير غير محايد إطلاقا، ومتحيز بشكل واضح، لأنه لا يمكن الوثوق إطلاقا في “تقديرات زعماء مجتمع اللادينيين بالمغرب”. ونحن لا نعتقد بأن الخارجية الأمريكية، خارجية أكبر دولة عالمية بها أكبر الجامعات في العالم وأحدث المناهج، يمكننا أن نتجرأ على إعطائها درسا في المنهجية، وأي مواطن أمريكي بسيط يفهم بأن الاعتماد على “زعماء مجتمع اللادينيين” غير علمي وغير دقيق. فهؤلاء طبعا سيعمدون إلى تضخيم الأرقام كوسيلة للضغط على الدولة، ولتأكيد قوتهم العددية في المجتمع، وعموما هذه من البسائط التي يعرفها كل شخص ولا داع للتوسع فيها، لأن كشف الواضحات من المفضحات.

أما النقطة الثانية فهي تكشف الاضطراب المفاهيمي الذي طبع معدي التقرير. فالقول بأن “اللادينية لا تعني بالضرورة الإلحاد، أو التوقف عن أداء الشعائر الدينية” هو كلام يثير الضحك، بل ويطرح تساؤلات حول الدوافع الخفية لاعتماد “مفهوم” غريب مثل هذا حول “اللادينية” لترويجه من خلال التقرير، وكان على معدي التقرير أن يحددوا المقصود من المصطلح من البداية، ولكن الهدف ليس الشرح بل إشاعة حالة من الغموض والالتباس، وهذا هو المقصود. 

فاللادينية تعني بالضرورة الإلحاد، عكس ما نقلت “الصباح” على لسان هذا المسؤول. قاموس أوكسفورد، وهو قاموس معتمد، يعرف اللاديني Irreligious  كالتالي: without any religious belief; showing no respect for religion، أي الشخص الذي ليس له إيمان ديني ولا يحترم الدين.

فالقضية إذن قضية خداع مفاهيمي للقراء والمسؤولين المغاربة.

هناك اليوم إصرار غربي، منذ بضع سنين، على دفع بعض الملفات إلى الواجهة مرة بعد أخرى ومحاولة تحويلها إلى “قضية”، لذلك يتم التضخيم من أعداد الشواذ والمتنصرين المغاربة والملحدين وغيرهم، ليس من طرف وزارة الخارجية الأمريكية فحسب، بل من جميع الهيئات الغربية والأوروبية التي تتحرك في مجال حقوق الإنسان والأقليات. والأمر لا يدعو إلى الغرابة من الأصل، لأن التصورات الكلية للمفاهيم “الحقوقية” الحديثة هي تصورات غربية متفق عليها، لذلك لا ينتظر الوقوع على اختلافات بين مختلف التقارير في مثل هذه القضايا. 

وعلى سبيل المثال، منذ مؤتمر القاهرة حول السكان عام 1994 وحول قضية المرأة والأسرة تطورت الأمور إلى الجندر وصارت هناك “بديهيات” في مجال الأسرة والنساء، ولا يهم إن كانت هناك دول عربية تحفظت أو امتنعت، لأن هذا لا قيمة له، فأنت تبدأ بالتحفظ والرفض وتنتهي بالاندماج التدريجي والحصول على الجنسية. بل القضية أشبه كثيرا بالواقع العربي، يقول الدستور شيئا وتفعل الدولة العكس، ومع الزمن ينسى الناس الدستور، ويتذكرون شيئا واحدا فقط هو الدولة.

ومهما كانت الأرقام، فإن هذا الواقع يكشف لنا ما هو مسكوت عنه، وهو دور المؤسسات الدينية في البلاد التي تشرب المال العام شربا ولا تصنع شيئا، بينما يزحف الإلحاد والعبث وتنحدر القيم، وهل يرجى ممن يفتقد إلى القيم أن يزرع مثلها؟.

*الدكتور إدريس الكنبوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *