قبل أيام رحل أحد رواد الحلقة والفرجة الشعبية بعدما صدمت سيارة دراجته النارية البسيطة التي كان يمتطيها خلال تحركاته.

اسمه الكريمي وينحدر من قبيلة الكريمات وليست لديه بطاقة فنان ولا يمكن أن تشاهد عروضه في القنوات العمومية، وحدهم الذين اعتادوا ارتياد الأسواق الشعبية والمواسم بين آسفي والصويرة ومنطقة الشياظمة وأسواق آيت ملول وإنزغان بأكادير يعرفون من يكون.

الكريمي منذ بداياته الأولى في الأسواق الأسبوعية أظهر قدرة عجيبة على شد انتباه الجمهور دون أن يكون قد تلقى تكوينا في أي معهد للمسرح. بصوته المبحوح وبفمه الخالي تقريبًا من الأسنان وبلباسه المتقشف والوتار الذي يلوح به بيده ظل يصنع الفرجة الشعبية البسيطة في الأسواق القروية مانحًا الضحك مقابل بضعة دراهم لجمهور لا يعترف بالسن أو الجنس، فالجميع يقف في الحلقة ويضحك لنفس النكت وأحيانًا يصبح الجمهور نفسه موضوع السخرية.

في عروضه يختلط السياسي بالديني، الأرضي بالأخروي، الجنسي بالعظات، وفي النهاية فالأهم هو أن ينتزع الضحك من الجمهور وأن يقنعهم بكفيه المرفوعتين إلى السماء بالدعاء لكي يمنحوه بضعة دراهم كمقابل لحصة الضحك التي منحها إياهم.

بفضل وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت حلقات الكريمي مسجلة وأصبحت له قناته في اليوتيوب. مما ضمن له شهرة واسعة بين عشاق الحلقة الذين يسترجعون عند مشاهدتها طفولتهم في مدنهم البعيدة حيث كانت الفرجة الوحيدة المتوفرة هي تلك التي يوفرها الحلايقية الذين يتبعون الأسواق الموزعة على القرى حسب أيام الأسبوع.

حد فريد، سبت كزولة، اثنين الطوالع، ثلاث الزيايدة، لاربعة بنسليمان، خميس الزمامرة، جمعة سحيم… كلهم كانوا يحملون ميكروفوناتهم وأكسيسواراتهم البسيطة على دراجاتهم النارية أو على متن كيران عريبات أو على متن سياراتهم المتهالكة ويتبعون غبار الأسواق حيث ينتظرهم جمهورهم الذي يتحرق شوقا لسماع حكاياتهم المسلية ونكاتهم الجنسية ونقدهم اللاذع للمجتمع وتناقضاته.

كثيرون هم الحلايقية الذين أثثوا طفولتنا، أشهرهم على الإطلاق هو خليفة، الذي كانت سخريته أقرب إلى الفلسفة منها إلى شيء آخر، خصوصا عندما يحكي عن لحظات موته وتغسيله ودفنه وحواره مع نكير ومنكر، وكل من كانوا مدمنين على متابعة عروض خليفة لا بد أنهم يتذكرون مقاطع من ذلك الحوار العجيب الذي دار بينه وبين أحد الملكين في قبره:

-قاريش ولا غي متكي ليا هنا؟

يسأل الملاك خليفة المسجى داخل القبر.

ثم يتابع قائلا وهو يعزف على كمانه نوطات نشاز:

-جابو الشوا جابو الدلاع، كالو ليا كول كلت ليهم ما كاد على ماكلة…

فقد كان خليفة يصف وصوله إلى العالم الآخر بدقة عجيبة كما لو أنه سبق له أن كان هناك ذات حياة أخرى.

كان خليفة يقيم الحلقة من لا شيء تقريبا، مواضيع سخريته يمكن أن يكون أبطالها بعض المتحلقين حوله، فيشرع في انتقاد طريقة ضحكهم أو جلوسهم أو لباسهم، فيجعل الجميع ينفجر ضاحكا بسبب ذلك.

وأذكر أنه ذات ليلة في موسم سيدي محمد بنسليمان مول النخلات حدث أن نام أحد المتفرجين فجمع عتاده وتسلل على أطراف أصابعه وطلب منا أن نتبعه إلى مكان قصي نصب فيه حلقته الجديدة تاركًا المتفرج النائم يشخر وحيدا. وذات مرة وقف قروي يتفرج في خليفة من فوق صهوة حماره فانتبه إليه خليفة وقال له :

-أ الراجل، سير للكوري وخلي حمارك يتفرج…

فخجل الرجل من نفسه ولكز حماره وغادر الحلقة.

ومرة انتبه خليفة إلى رجل بالغ في الوقوف ملتصقًا خلف امرأة كانت تتابع حلقته، فتوجه نحوها وطلب منها أن تجلس إلى الأرض بسرعة فجلست فوقف وجها لوجه أمام البوانتور وقال له وهو يرفع يديه إلى الأعلى مستسلما :

-تيري فيا أنا دابا…

فخجل الرجل من نفسه عندما انكشف أمره وقد ظهر شاهرا عتاده الذي ظهر منتصبا تحت جلبابه الصوفي الثقيل.

وفي كل مرة كان خليفة لا يعدم اختراع مشهد طريف وساخر يستل به ضحكات الجمهور وعطفهم عليه.

الكريمي كان أيضا بشكل أو بآخر يحكي عن نفس العوالم الأخروية، يحكي عن الموت وعالم القبور والحساب، تماما كما فعل دانتي في الجحيم أو “الكوميديا الإلهية”. سوى أن دانتي فعل ذلك كتابة فيما الكريمي وخليفة وكيرا ابن الحي المحمدي وغيرهم من الحلايقية الذين كانوا يعتمدون في حكيهم على حناجرهم وحبالهم الصوتية ظلوا عالقين في عالم شفاهي يندثر مع مرور الزمن.

وإذا كان هناك من فنانين يحسنون استغلال الثلاثي الأساسي في كل سخرية، أي الدين والجنس والسياسة، فهم رواد الحلقة، وقد كان عاديا أن ترى نساء يقفن وسط الرجال يستمعن ويضحكن ويصفقن لنكات وقفشات الحلايقية بما فيها تلك النكات الجنسية البذيئة التي تسخر من فحولة الرجل أو من كيد النساء. والغريب أن الناس رغم محافظتهم كانوا يتساهلون مع تجرؤ هؤلاء الحلايقية على تناول أمور غيبية بسخرية. فلم يكن أحد يكفرهم أو يفتي بإراقة دمائهم.

وبالنسبة لنا نحن أطفال تلك السبعينيات وبدايات الثمانينيات الصاعدين من أحياء جرداء لا ظل فيها من أشعة شمس الله الملتهبة سوى الخلاء، فلا حديقة عمومية كانت هناك ولا مسرح ولا دار شباب، وحدها الحلقة في السوق الأسبوعي كانت ملاذنا الوحيد للحصول على فرجة مجانية. وكان نجومنا آنذاك هم رواد الحلقة الأشاوس، أقصد الفرم وخليفة والكريمي والعياشي مول الحمار الذي يأمر حيوانه المتعب بالقيام بنعسة القايد فيأتمر المسكين بأمره ويضطجع على جنبه كأي قائد في جلسة مخملية.

كان لدينا الاختيار بين أنواع كثيرة من “الفراجات”، نبدأ بحلقة الرحالي ذي الشعر الطويل والمنفوش والذي يضع الماء في مقراج فوق النار التي توقدها ابنته التي كانت في سننا، وعندما يغلي الماء يحمل المقراج إلى فمه ويعب الماء الحارق قبل أن يرشه من بين شفتيه على وجوه الحاضرين باردًا مثل رذاذ صباحي.

كان الناس يهللون شبه مذعورين من هذه الكرامة، لكن ذلك لم يكن ينجح في إقناعهم بوضع أيديهم في جيوبهم لمنح الرحالي وابنته بضعة دراهم، لذلك فقد كان دائما ما يمر إلى الفرجة الموالية الأكثر إثارة للشفقة والهلع، فقد كان يخرج ثعبانا من علبة خشبية ويطوف به حول الحلقة لكي يرى الجميع أن الأمر يتعلق بثعبان حقيقي، قبل أن يلقي به في المقراج الذي يغلي فوق النار.

وبينما الثعبان يتقلب داخل المياه المغلاة كان الرحالي يخرج نايه وينفخ فيه ألحانًا غريبة وينخرط في جذبة مخيفة، ثم فجأة ينقض على المقراج ويشرب ماءه الفائر ويخرج الثعبان المسلوق ويغرز فيه أسنانه ويبدأ في أكله أمام الجمهور الذي تكاد عيونه تخرج من محاجرها منشدة الخوف. ومما كان يزيد المشهد رهبة هو نشيج ابنة الرحالي الذي يمزق القلب وتعلقها بأرجل والدها مستعطفة إياه أن يكف عن أكل الثعبان لأن الناس سوف يمنحونه ما يشتري به أكلا له ولأبنائه.

كان هذا المشهد هو ما نبحث عنه في كل حلقة للرحالي، إذ بمجرد ما ينتهي من افتراس الثعبان ننسحب واحدًا واحدًا، ونحن نعرف أنه سيتبعها بدعواته لنا بالويل والمصائب والكوارث، فقد كانت تلك طريقته لكي يضمن عدم مغادرة الجمهور قبل دفع ثمن الفرجة، خوفا من اللعنة. فأكثر ما كان يخشاه الحلايقي هو أن “تفرم” حلقته وينفض عنه الجمهور قبل استخلاص تعويضات عرضه منهم.

بعد حلقة الرحالي نمر على بقية الحلاقي، الثنائي الذي يؤدي دور المرأة التي “تنفض” زوجها بعصا كما لو كان زربية، وحلقة الملاكمة التي يلتقي وسطها كل من يرغب في تصفية حسابه مع شخص ما، وحلقة طبيب الأضراس المحتال الذي يبيع محلولًا ينقعه في القطن ويخرج به دودة من ضرس مسوس لشخص يشتغل معه موحيا للناس أنه مجرد فرد من الجمهور، وحلقة بائع المرهم الذي يطيل أعضاء الرجال الذكرية، وحلقة الساحر الذي يوهم الجمهور بأنه قادر على تحويل الذكور إلى بنات والذي يجمع عتاده ويغادر فور جمعه المبلغ المنشود دون تقديم أي دليل على ما يدعي واعدا بأنه سيصنع ذلك في السوق الموالي.

كانوا كلهم يأتون إلى السوق الأسبوعي، دجالون ومحتالون وقراء طالع وسحرة وساخرون وحكواتيون وباعة أدوية وأعشاب ومراهم ومحاليل لا أحد يعرف مصدرها. كان هؤلاء هم صناع الفرجة الوحيدون الذين كان بمستطاعنا مشاهدتهم بالمباشر ومجانا.

خلال السنوات الأخيرة بدأ عقدهم ينفرط برحيل أغلبهم بصمت ودون أن تعطاهم القيمة الحقيقية التي كانت لهم، يرحلون بصمت فتزداد الذاكرة الشعبية يتما بفقدانهم.

فشكرا لهم ورحمة الله عليهم جميعًا.

رشيد نيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *