كنت، لمرات، أقرأ بأن الصحافة المغربية تأكل أبناءها. وأرى لذلك تمثلات على أرض الواقع، متجسدة في صحافيين كبار انتهوا إلى مآلات غير لائقة بأسمائهم وإسهاماتهم في تاريخ المهنة الشريفة.

غير أنني، لم أتوقع يوما أن أرى، على أرض الواقع أيضا، الأبناء وهم يأكلون صحافتهم، ودون أن يرف لهم جفن، أو يشعروا بالذنب. بل أكثر من ذلك، فقد صار التنافس على أشده، مثلما يحدث في الغابات، عندما تسقط جيفة على حافة النهر، فيتجاذبها التماسيح والضباع، كل من جهة، ويتخطفها الطير بين الفينة والأخرى، قبل أن يأتي عليها الدود، فتصبح أثرا بعد عين.

ما الذي أصبنا يا ترى؟

لماذا وقع ما وقع؟

ألم نتعلم على أيدي كرام بررة؟ ألم نقرأ للسحيمي؟ ألم نتتلمذذ على يدي الباهي؟ ألم يطربنا عبد الرفيع الجواهري؟ ألم نتقاسم مسهمات أبو سلمى؟ ألم نتابع مصطفى العلوي؟ ألم تلهمنا مقالات القيطوني؟ ألم نتهافت على الجرائد كلها، لنقرأ ونتعلم العربية والفرنسية، ونثقف أنفسنا؟..

أين كل هذا الإرث؟ لماذا لم يعديظهر علينا؟ أين ضاع منا، وكيف؟ ولماذا؟ هل صرنا لقطاء؟ هل أصبحنا بلا ماض؟ وبلا أساس نقف عليه؟ هل إلى هذا الحدنسينا وبسرعة كل ما تعلمناه؟ أم ترانا رميناه على الجانب كي نتخلص منه، ونبدأ طريقة جديدة تقودنا إلى “المال”؟.

من حق الناس، إذن، أن ينظروا إلينا بريبة وشك. أن يقولوا إن هؤلاء الصحافيين صاروا أشبه بـ”الزومبي”، يخشى الاقتراب منهم. ويقولوا، كلما ظهر لهم واحد منا، وسيما من يحملون الكاميرا والميكروفون، “هيا بنا نفلت وننجو من الزومبي”. 

من حقهم كل ذلك. مثلما من حقهم، وهم في خلواتهم، أن يتساءلوا:”من علم هؤلاء أن يكونوا هكذا؟ من صنعهم؟ وفي أي معاهد تعلموا هذا الفتك بالحرفة؟ ومن أين تخرجوا؟ فمن سبقوهم لم يكونوا هكذا. 

يا للسوأة.. يا للعار..

ألم يئن، إذن، لنا جميعا أن نعترف بأننا أكلنا الصحافة؛ أكلنا مهنتنا؟ .

ألم يئن لنا أن نعترف بالبشاعة التي صنعناها صنعا، ومضينا نسمنها، وننشرها يمينا ويسارا، مخربين كل القواعد الأعراف والمعايير المهنية؟ ألم يئن لنا أن نعترف بأن الصحافة اليوم، بهذا الشكل البشع والوجه المشوه، تسيء للبلد؟

إن الذين يقولون عكس ذلك، ويبررون لأنفسهم ما يجترحون، هم أول وأكثر من يدرك الحقيقة، ويعرف أن البشاعة، التي تدر عليهم الأموال و”الجاه” و”الوجاهة الاجتماعية” الكادبة، و”المتابعة” الفقاعية، تسيء إليهم وإلى بلدهم، وإلى مستقبل المهنة.

سيأتي يوم سنساءل جميعا. من برر ما يقع، ومن قعد له، ومن صنعه، ومن سكت عليه، ومن طبل له، ومن قال إنه عين الصحافة، وغيره مجرد ترهات.

سيائلنا من سيأتون بعدنا، عندما يدرسون هذه “الطفرة الفيروسية” المثيرة في تاريخ مهنتنا، والتي جاءت بلا سابق “إرث جيني”. وسيائلنا من ستمسهم اللوثة، ويصابون بها في مقتل أسري وعائلي ونفسي. وسيائلنا من سيتعلمون مما خلفناه لهم، فـ”زادوا في العلم” إلى أن حولوا الأسوأ إلى أسوأ من الأسوأ.

ألا حي على الإصلاح.. ألا حي على الإنقاذ.. 

فإن الذي وقع ويقع لأمر جلل.. وكل منا عنه مسؤول.. ولكل منا فيه ضلع.. وإن تركناه لحاله، فلا يلومن أحد منا يوما يأتي يصير فيه الصحافي مرادفا لـ”الموبوء”.. يفر الناس منه فرارا، إلا المتملقون والوصولويون وأصحاب المصالح ممن يملكون مناعة ضد “وبائه”، ويعرفون “اللقاحّ الذي يليق بصده.

*يونس الخراشي صحفي مهني 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *