يونس الخراشي (صحفي رياضي)

ما أكثر القصص المؤلمة في تاريخ الرياضة المغربية، وأكثرها إيلاما تلك التي يحكيها “المتخلى عنهم”. فغياب ثقافة الاعتراف المؤسساتي داخل الأندية والجامعات، وسقوط الكثيرين في فخ الجهل بتقلبات الزمن، أنتج لنا مآسي مفجعة.

ومع أن الرياضة، في حد ذاتها، نوع من اللحام الاجتماعي، ويفترض فيها أن تنتج “علاقات وشائجية” من نوع خاص، إلا أن العكس هو الذي ظل يحدث في أحيان كثيرة، مخلفا آثارا مخزية على الرياضيين، وعلى من يحبونهم، ويعشقون رياضاتهم.

في كل نوع رياضي مغربي توجد قصص مؤلمة. ودائما هناك رياضي أو رياضية ممن “غدرهم الزمن”، وإذا بهم يوجدون في وضعية هشة، يعانون جراء الفقر من جهة، وانكسار الأنفة، التي هي رأس مال الرياضيين، من جهة ثانية.

وعلى طول الطريق المظلم، الذي تؤثثه قصص أولئك الرياضيين، بحكاياتهم، ودموعهم، وشجونهم، تجد، بين الفينة والأخرى، بعض التدخلات “الإحسانية” لصديق، أو رفيق، أو زميل، أو لمسؤول سابق أو حالي، أو لقريب، حين تنفع القربى.

وحتى مباريات التكريم، التي نادرا ما تقام في بلادنا السعيدة، فغالبا ما تتحول من لحظة للاعتزال فور الانتهاء من اللعب لناد ما، وتوديع الجماهير بشرف، إلى ليلة لـ”جمع التبرعات” بشكل أو بآخر، لـ”معتزل سابق“.

من القصص الشهيرة للرياضيين “المتخلى عنهم” تلك التي تحكي عن النهايات المحزنة للعداء العملاق عبد السلام الراضي. فهذا الجندي السابق في الجيش الفرنسي، والذي اختار الجري باسم المغرب في أولمبياد روما لسنة 1960، ثم فاجأ العالم بفوزه بالميدالية الفضية لسباق الماراثون، سيعاني في آخر أيامه، وسيموت مغبونا، مخلفا وراءه ميلودراما مؤثرة للغاية.

وفي “زيارة خاصة”، أجريتها قبل عام تقريبا، لرئيس سابق لجامعة الكرة الطائرة، وجدتني أجالس رجلا محطما بفعل نكران الجميل. يكاد لا يقوى على الوقوف أو الجلوس أو الكلام. ذلك أنه كان صاحب أنفة عالية، وذا جاه رياضي كبير، وأسدى خدمات جليلة للرياضة المغربية، قبل أن يقع ضحية “انقلاب” في جامعته، ويصبح نسيا منسيا في بيته.

لماذا حدث ويحدث ذلك؟

لأننا لا نملك ثقافة الاعتراف. ومن العجيب الغريب أننا نملك، في المقابل، ثقافة الاعتراف بأننا بدون “ثقافة الاعتراف”. وهكذا، فعوض أن نمضي في البحث عن وسيلة مؤسساتية؛ في كل جمعية رياضية، أكانت ناديا أو جامعة، لإنشاء ما يحفظ كرامة الرياضي، نبقى مكتوفي الأيدي، حتى تطالعنا قصص محزنة ومؤلمة جديدة. وننتهي جميعا إلى الاعتراف الكبير بأننا “لا نملك ثقافة الاعتراف“.

أي نعم، هناك مؤسسة محمد السادس للرياضيين القدماء، التي تتحرك على قدر جهدها يمينا ويسارا، لتنقذ ما يمكن إنقاذه، فتغطي مصاريف العلاج لهذا الرياضي السابق، وتقدم مساعدة ما لغيره، وتعتني، في لحظات صعبة، بآخر. غير أن ذلك لا يكفي، في ظل وجود رياضة منتجة، وبغزارة وتواتر، لمئات الرياضيين “البؤساء“.

والحال أنه يتعين على كل جمعية رياضية، أكانت ناديا أو جامعة، أن تفكر في التأسيس لـ”مرفق اجتماعي”، عبارة عن لجنة أو خلية أو غيرها، ليعنى بالرياضيين السابقين. ليس لغرض الإنقاذ في اللحظات الصعبة وحسب، بل لغرض تكريس ثقافة الاعتراف. بداية بالتكريم بشتى أنواعه؛ المعنوي أساسا، وصولا إلى رياضة لا تأكل أبناءها.

وفي حال وجد ذلك “المرفق الاجتماعي”، الذي سيجعل الرياضيين يشعرون بأنهم يسدون خدمات لرياضتهم، وأن هناك من يفكر فيهم وفي مصيرهم، فإن المتعين أولا وقبل كل شيء، هو تعليم الرياضيين كيف “يتفادون الفقر”؛ بمواصلة التعلم والتكوين، والتخطيط لمستقبلهم بعيدا عن الملاعب، وبناء شخصيتهم لما بعد المسار الرياضي.

في مرة قالت البطلة نزهة بيداون، صاحبة ذهبيات 400 متر حواجز، إن أكثر اللحظات التي صدمتها في حياتها لم يكن الخسارات في بعض المنافسات، بل حين اعتزلت ألعاب القوى، ثم وجدت نفسها، في اليوم الموالي، بدون مستقبل واضح المعالم. قالت إنها أصيبت بصدمة في اليوم الثاني لاعتزالها، فهي لا تعرف سوى التدرب، والتنافس. وتساءلت:”ماذا سأفعل الآن؟“.

وبينما كانت بيدوان قد أعدت العدة ماديا، ولو نسبيا، فإن رياضيين آخرين صدموا صدمتين، معنوية ومادية. فإما لأن الإصابة داهمتهم، أو لأنهم اعتزلوا بسبب التقدم في العمر، ودون أن يستعدوا بما يكفي، وجدوا أنفسهم يصرفون ما ادخروه يوما بعد يوم، إلى أن نفد رصيدهم. ثم حين حاولوا الاستنجاد بمحيطهم السابق، اكتشفوا أن دوامة الحياة في الملاعب طحنت صورتهم، ولم يعد لهم نفس الوهج الذي كان.

قد يكون الرياضي غنيا. ولكنه يبقى بـ”مشاعر هشة للغاية”. فتجده، بفعل “إدمانه للرياضة” على مدار سنوات ممارسته الطويلة، بحاجة إلى زيارة ود فقط، أو تذكرة ملعب، أو لحظة تواصل، دون أن يجدها. فيسقط في “الاكتئاب”، ويعيش ما تبقى من عمره مع “وسواسه القهري” الذي يتحول إلى شخصية تؤنبه، وتعذبه، ولا تمل تكرر عليه:”وشفتي شحال درتي وشحال عملتي، وها أنت ما داها فيك حد.. فين هما صحابك.. فين هوما اللي كانوا كيهللوا ليك؟؟“.

إن الاعتراف بالرياضي، وتكريمه بتعليمه “كيف يتفادى الفقر”، والاعتناء به معنويا وماديا، من شأنه أن يحفظ للمجتمع “رموزه” التي لطالما هتف باسمها، وحملها على الأكتاف، أو بكى معها ولأجلها. فيملأه ذلك بالفخر أكثر فأكثر، ويجعله مطمئنا على مستقبله، ومستقبل أبنائه، وخاصة منهم أبناؤه الرياضيون.

لنعترف إذن.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *