نشرت بعض المنابر الإعلامية خبرا عن مداهمة السلطات في بني ملال لبعض محلات من يسمون أنفسهم “رقاة شرعيين”، وهو خبر يعيد إلى الأذهان الفضائح التي تورط فيها سابقا محترفو هذه التجارة، ويضعنا أمام حالة غريبة تستوجب المناقشة.

لا خلاف في أن الرقية “الشرعية” هي وسيلة مارسها النبي صلى الله عليه وسلم مع الصحابة وغيرهم، ومارسها بعده المسلمون، وهي وسيلة للعلاج من بعض الآفات مثل العين والحسد وغيرها من الأمور ذات الطبيعة الروحانية النفسانية. 

ولكن وكما يدل عليها اسمها”الرقية الشرعية” فهي شرعية كونها مبنية على الشرع لا على الخرافات والشعوذة وأعمال السحر وتخليط المواد التي قد تؤدي إلى التسمم وكثيرا ما أدت إليه، وقد تؤدي إلى الوفاة. ثم هي شرعية أساسا لشروط لا بد من وجودها في الراقي وفي المرقى معا، شروط نابعة من الشرع نفسه.

ولكن وكما يحصل في جميع الأمور تسرب إلى هذه الوسيلة ما ليس منها، ودخلها كل من هب ودب بسبب غياب التدين وغياب الالتزام وفساد طباع الناس وتساهل الجهات المسؤولة التي تركت الحبل على الغارب حتى استشرى البلاء، فصارت هذه الوسيلة اليوم مقرونة بأمور يرفضها الشرع والقانون والحس السليم، مما يعرفه الناس في كل مكان. ولعل انتشار هذه التجارة من شأنه أن يسيء إلى الإسلام، بل لقد أساء حقا إلى “الرقية الشرعية” فأصبحت تثير التقزز عند الناس، ومنها سيتم التسلل إلى الدين نفسه. فالظواهر الدينية التي تنتشر بين الناس بطريقة منحرفة سرعان ما تصبح صورة عن الدين نفسه، لأن الناس لا تميز بين الصورة الحقيقية والتحريف، وعندما تتراكم الأخطاء يتم إلصاق تلك الأخطاء بالصورة المنحرفة التي يأخذها الناس على أنها هي الصورة الحقيقية، وهكذا يصبح الدين هو المتضرر. 

لقد لوحظ في السنوات الأخيرة تناسل مخيف لهذه الظاهرة، بل لقد صار بعض أدعياء الرقية الشرعية ينشرون الإعلانات وأرقام الهواتف والتخصصات، فتسقط النساء في الفخ ويأكلن الطعم، والنساء في كل مجتمع وفي كل زمن هن الحلقة الأضعف التي تبدأ منهن الأمور الصغيرة التي سرعان ما تكبر، وهن اللواتي يقعن عرضة للاستغلال سواء من أصحاب الرقية الماسخة أو أصحاب النسوانية المائعة أو أصحاب الانتخابات. 

وليس غريبا أن تجد تجارة الرقية غير الشرعية مجالا واسعا للانتشار وينجح الرقاة الأبالسة في ما يخططون له. فظاهرة الطلاق في انتشار واسع في المغرب، والعنوسة في أوج ارتفاعها في بلادنا، والمشاكل بين الأزواج حدث ولا حرج، وهذا هو “الثلاثي الخطير” الذي يغذي الخرافة والشعوذة ويجعل النساء لقمة سهلة في أفواه هؤلاء الرقاة.

ولا يعتقدن أحد يقرأ هذه السطور أن ضحية الرقاة امرأة محجبة، إذ يسمع الرقية فترد إلى دماغه امرأة محجبة أو “ملتزمة” مثلا. لعل أكثر ضحايا هؤلاء هن من الفئة الليبرالية من النساء، ومن “المتحررات”، وحتى من النسائيات اللواتي يناضلن من أجل حقوق المرأة، ففي المنطقة الحساسة لا توجد إيديولوجيا ولا مكان للنساء، بل فقط للإناث. 

لقد حلت الرقية اليوم محل الأضرحة في الماضي. كلما تقلص دور الأضرحة والطقوس القديمة بسبب الزحف المديني كلما انتقل مركز الثقل من الضريح إلى الراقي. يناسب الراقي المدينة بينما يناسب الضريح القرية، وبسبب ذلك أصبحنا أمام ظاهرة سوسيولوجية غريبة وهي “قرونة المدينة”، أي تحويلها إلى قرية، إذا جاز هذا الاشتقاق وأعتقد أنه غير جائز لكن المعنى وصل. ذلك أن الجهل والتخلف والإيمان بالخرافات والشعوذة والشموع مما كنا نعتقد أنه خاص بالقرى والبوادي بسبب عدم التمدن، قد انتقل إلى المدينة بل إلى أحيائها الراقية التي كان منتظرا في الماضي أن تأتي بالثورة الثقافية إلى المجتمع. وهنا سوف نجد أعظم التناقضات التي قليلا ما تجتمع، حيث قد تلتقي الحداثة على مستوى الشكل مع أكثر الخرافات غرابة على مستوى المضمون، ففي داخل الكثير من دعاة الحداثة يسكن جني!!.

ويجب التنبيه على شيء مهم جدا، وفي غاية الأهمية، حتى لا نستدرج إلى الوهم. فكثير من الأعمال هي أعمال شعوذة وسحر وجن ولا علاقة لها بالرقية، شرعية أو غير شرعية. ولكن الناس تخلط كثيرا في هذا الأمر، إذ عندها كل شيء رقية، وكل ما تضمن همهمة وغنغنة رقية “شرعية”، وهذا غير صحيح. فالرقية الشرعية هي القرآن والدعاء فحسب، ومن ثم فإن كل شخص يمكنه أن يرقي نفسه، خصوصا وأن الشرع يرفض الوساطة.

لكن محاربة هذه الظاهرة لا تأتي بالمداهمات، بل لا بد من التوعية، ولا بد من مشروع حقيقي للإصلاح الديني، مشروع ينبني على أساس توعية المواطن بدينه بعيدا عن الخرافات، وقيام المجالس العلمية بأدوارها كقاطرة مؤسساتية للإصلاح الديني، بهدف محاربة الانحرافات التي أصابت تدين المغاربة. 

د. إدريس الكنبوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *