Le12.ma
في مثل هذا الشهر عام 1992 اغتيل فرج فودة المحامي المصري الذي اشتهر آنذاك بالدفاع على فصل الدين عن السياسة وعلى العلمانية.
في ذلك العام تابعنا المناظرة التي شارك فيها هو وفؤاد زكريا ومحمد عمارة ومحمد الغزالي ويوسف القرضاوي والهضيبي، على كاسيط فيديو، رحم الله الجميع. وكنت قد قرأت بعض كتيباته وبعض مقالاته في الصحف التي كانت تصلنا.
تلك جريمة حصلت في وقت سيء في مصر، تلقفها الكثيرون لتحقيق أهداف متنوعة. وأظن أن هناك من خطط للاغتيال لتبرير الأهداف، رغم ما قيل وما كتب، لكن ما وراء الستار لا يراه أحد، ومثل هذه الجرائم المدبرة تحصل في المجتمعات العربية كلما كانت هناك نية في حسم الصراع مع تيار معين.
ففي الصراع السياسي في الدول العربية حياة الناس أرخص من نصف طن من التراب. لكن استنكار الجريمة البشعة شيء، والموقف من فودة شيء آخر ولا يجب الخلط. صنع فودة على المقاس وتم دفعه في الواجهة بسرعة فصار نجما لامعا يلبي احتياجات جهات عدة: الدولة والأقباط والعلمانيين واليسار والسفارة الأمريكية. لم يكن مثقفا حقيقيا ولا أكاديميا ولا صاحب فكر بل كان خطيبا يناسب مهنته كمحام، يلتقط الأدلة ضد الإسلاميين من هنا وهناك كما اتفق من كتب التاريخ ويسجلها ضد خصومه دون أطروحة واضحة. لذلك كتاباته كلها خطابية شعبوية ضعيفة المستوى جدا وقريبة من المقالات الصحافية قبل التصحيح. ولذلك وجدوا فيه نموذجا مناسبا أفضل بكثير من سعد الدين إبراهيم الأكاديمي المتمكن والمتأمرك لأنه لا يستطيع تأدية المهمة.
وفودة هو أول من بدأ هذا النموذج الموجود اليوم، وهو ما تحدثنا عنه أمس وسميناه les faits divers. وأنا أتذكر مثلا أنه ذهب إلى تاريخ الطبري وأخذ منه فقرات عن اقتتال الصحابة وصراع علي ومعاوية وأخذ يطعن به على الإسلاميين، وكأن الإسلاميين النموذج المثالي لنقارنهم بزمن الصحابة.
ولكن فودة في الحقيقة لم يعرف كيف يقود صراعا فكريا مع التيار الإسلامي في مصر، فخلط الإسلاميين بالإسلام وخاض معركة ضد الكل دون تمييز. ولذلك شارك في المناظرة فؤاد زكريا العلماني والغزالي وعمارة ممثلين للفكر الإسلامي، والهضيبي ممثلا للإسلاميين. فقد كانت المعركة فكرية – سياسية، لأنك لا يمكن أن تحشر الإسلام في المعركة وتنتظر أن يكون خصمك من السياسيين فقط.
وهذا أحد الأسباب التي تستدعي أمرين مهمين: الأول أن يكون التنافس السياسي في المجتمعات الحديثة تنافسا برنامجيا حول التدبير والاختيارات العامة، مثل الأحزاب في أمريكا مثلا. والأمر الثاني أن تكون الدولة والمؤسسات الموازية والهيئات الفكرية هي الراعية لشؤون الدين، على أن يكون العلماء خط الدفاع الأمامي عن هوية الدولة والمجتمع لا الإسلاميون. وإذا كان الخلاف الذي يبرز اليوم في المجتمعات العربية هو الخلاف الإسلامي – العلماني (تجاوزا فالعلمانية عندنا أطروحة بلا رأس) فهذا خلاف عابر لا يعكس عمق المجتمع لأن التيار العلماني مهما كان يبقى شيئا خارج الهوية، وهو خلاف يخفي أشياء لا يفكر فيها أحد اليوم، وأعني بذلك الخلاف فوق الأرضية الدينية نفسها وهي الأهم والأخطر.
من يرى الخصومات بين بعض التيارات السلفية وبين السلفيين والصوفية وبين الإسلاميين بعضهم البعض في أمور أخطر من السياسة يدرك بأن القضية ليست بسيطة بل تتطلب تجديدا في منهج التفكير.
*إدريس الكنبوري مفكر مغربي