محمد المختار ولد أحمد
في ظروف استثنائية تعمّ العالم ولم تعهدها البشرية؛ يستقبل المسلمون رمضان هذا العام بفرحة غامرة مشوبة بأسى بالغ: فرحة بمقدمه وهو ربيع أرواحهم، وأسى لما حيل بينهم وبينه من تلاقٍ للمؤمنين -باختلاف طبقاتهم أعمارا وأقدارا- طوال لياليه المباركة في رحاب التراويح بمساجدهم العامرة بالإيمان، بعد أن عطلت الصلاةَ فيها -بمعظم بلاد المسلمين- إجراءاتُ حرب فيروس كورونا العالمية.
وفي هذا المقال؛ سنقدم نبذة تاريخية عن هذه الشعيرة المحببة إلى القلوب المؤمنة في شهر القرآن، فنروي باختصار كيف بدأت منذ فجر الإسلام، ونرى بعض ما اعتراها تاريخيا من مسحات اجتماعية كادت تخرجها من حيز العبادات (الدين) إلى دائرة العادات (التدين)، ونكشف جانبا من تأثرها بتاريخ المسلمين ومؤثراته المختلفة عقديا وفقهيا وسياسيا واجتماعيا، وكيف تعطلت أحيانا بعوامل مختلفة، ثم نعرض لذكر مشاهير من أعلام جمْعها أئمةً ومأمومين. وسنكتشف -أثناء ذلك كله- أن كثيرا من ممارساتنا المقترنة بهذه الشعيرة العظيمة لم تكن وليدة اليوم، بل ورثناها منذ حقب متطاولة.
مبادرة عُمَرية
يلخص لنا العلامة ابن المِـبْرد الحنبلي (ت 909هـ) أصل نشأة صلاة التراويح في الإسلام بقوله: “لا يتوهم متوهم أن التراويح من وضع عمر (ض) ولا أنه أول من وضعها، بل كانت موضوعة من زمن النبي (ص)، ولكن عمر (ض) أول من جمع الناس على قارئ واحد فيها، فإنهم كانوا يصلون لأنفسهم فجمعهم على قارئ واحد…، وسميت ‘التراويح‘ [بهذا الاسم] لأنهم يستريحون فيها بعد كلّ أربع”.
وقبل ابن المبرد بستة قرون؛ حدد لنا “شيخ المؤرخين” الطبري تاريخ صدور أمْر عمر بجمع الناس لصلاة التراويح فقال إنه كان في سنة 14هـ “وكتب بذلك إلى البلدان وأمرهم به”. وقد خصص عمر قارئا للصلاة بالرجال وآخر للصلاة بالنساء؛ ولعلّ أمهات المؤمنين لم يكنّ –نظرا لمكانتهن الخاصة- يشهدن تراويح النساء العامة، كما يُفهم ذلك من الأثر الذي يقول إن “ذكوان مولى عائشة (ض) كان يؤمُّها في… صلاة التراويح [وهو يقرأ] في المصحف”.
وحفظت لنا كتب التاريخ والتراجم أسماء القراء الذين كلفهم عمر -في أوقات مختلفة- القيام بهذه المهمة؛ فذكرت من قراء الرجال: أبيّ بن كعب الأنصاري (ت 22هـ) الذي “كان يصلي بهم عشرين ركعة”، ومعاذ بن الحارث الأنصاري (ت 63هـ). وأما قراء النساء فهم: تميم بن أوس الداري (ت 40هـ) الذي ورد أيضا أنه صلاها بالرجال، وسليمان ابن أبي حثمة القرشي، وعمرو بن حُرَيث المخزومي (ت 85هـ).
ومن الأوّليات المتعلقة بتاريخ التراويح؛ ما يرويه أبو عُبيد البكري الأندلسي (ت 487هـ) -في ‘المسالك والممالك‘- عن سفيان بن عيينة (ت 198هـ) من أن “أول من أدار الصفوف حول الكعبة عند قيام رمضان [والي مكة الأموي] خالد بن عبد الله القَسْري (ت 120هـ)، وكان الناس يقومون في أعلى المسجد؛ [فـ]ـأمر.. الأئمةَ أن يتقدموا ويصلّوا خلف المقام، وأدار الصفوف حول الكعبة”.
وقد استقرّ حكم التراويح الفقهي -عند علماء أهل السنة- على أنها “سنة” لا “فرض” وساقوها مثالا نموذجيا على “البدعة الحسنة” شرعا عند القائلين بها؛ لكن بعض هؤلاء العلماء ذهب إلى أنه “لا يجوز تركها في المساجد… لكونها [صارت] شعارا [للمسلمين]، فتلحق بفرائض الكفايات أو السُّنن التي صارت شعارا… كصلاة العيد”.
كما استحبوا أن “يُزاد في شهر رمضان في أنوار المساجد” بتعليق المصابيح؛ قائلين أيضا إن “أول من فعله عمر بن الخطاب لما جمع الناس في التراويح”؛ ورووا في ذلك أن علي بن أبي طالب (ض) “مرّ على المساجد في رمضان وفيها القناديل تـُزهِر، فقال: نوّر الله على عمر قبره كما نور علينا مساجدنا”.
ومع أن جماهير المسلمين ساروا على نهج الصحابة في إقامة شعيرة التراويح في رمضان؛ فإنه ظهرت آراء أنكرت شرعيتها باعتبارها “بدعة عُمَرية”؛ كما ترى طوائف الشيعة باستثناء بعض أئمة الزيدية. ونسب المقريزي (ت 845هـ) إلى الفرقة النَّظـّامية من المعتزلة قولها إنه ”لا تجوز صلاة التراويح”.
يتبع
المصدر: الجزيرة