* محمد أوجار

تجتهد الإنسانية وتعبئ كل الطاقات والإمكانيات الفكرية والعلمية والطبية والعسكرية والمالية والتدبيرية… وغيرها وتسخر كل الوسائل البشرية التي تتوفر عليها لمواجهة جائحة كورونا فيروس، وهزم هذا الوباء الخطير والفتاك والحد من انتشاره ومحاصرة آثاره الكارثية في كل المجالات.

تختلف نجاحات وإخفاقات الدول في هذه الحرب الكونية، والتي كشفت ضعف كبريات الأمم المتقدمة والصناعية وارتباك قادتها وعجز مختبراتها ومؤسساتها الطبية والبحثية والجامعية عن بلورة الإجابات والحلول القادرة على الاجتثاث السريع والقضاء الشامل على وباء كوفيد 19 .

أغنياء وفقراء

ونحن اليوم، أغنياء وفقراء، دولا مصنعة ومتخلفة، أمام وضع لم يكن أحد يتخيل أن نواجهه يوما ما.

وبكل تأكيد، فإن ما عشناه في الأسابيع الماضية وما سنعيشه في الأيام المقبلة سيظل سابقة كونية لم يشهد مثلها التاريخ لكثير من الاعتبارات التي يدركها الجميع والتي لا يسع المجال للحديث عنها اليوم .

ومما لا جدال فيه أن هذه التجربة الإنسانية الفريدة التي نعيشها ستحدث انقلابات إستراتيجية عميقة ستطبع عالم الغد، سواء على صعيد صياغة التوازنات أو بلورة هندسة جديدة للعلاقات الدولية ومراكز النفوذ الجديدة.

لا يمكن استساغة أن العالم سيظل كما هو اليوم بعد كل المآسي والفواجع التي عانت منها كل الشعوب نتيجة العجز البين أمام هذه الجانحة.

ترتيبات استراتيجية جديدة ستبرز نتيجة ما أفرزته سياسات تدبير هذه الأزمة الكونية، وما كشفت عنه من قصور لآليات العولمة والقيم التي تولدت عنها في مواجهة هذا الوباء.

فلا الاتحاد الأوروبي يمكنه أن يخرج سالما من محاسبة الشعوب والدول الأعضاء لبعضها البعض في كل ما يتعلق بالفشل في تدبير أوروبي موحد للأزمة، ولا الولايات المتحدة الأمريكية يمكنها أن تحافظ على ريادتها المطلقة للعالم بعد أن عاين الرأي العام الدولي عجزها وتخبطها وانكماشها في تحيز سافر لمصالحها الوطنية على حساب مقتضيات التضامن الدولي والتعاون الإنساني بين كل الشعوب والدول .

كما أن الصين الشعبية لن تخرج سالمة من هذه المحنة، ولن يقبل العالم أن تظل كما كانت في الماضي مصنعا لكل العالم يؤمن له احتياجاته في كل المجالات بما فيها الصيدلانية.

المتغيرات الإستراتيجية

لا يمكن حصر لائحة كل المتغيرات الإستراتيجية التي نحن مقبلون عليها في آسيا وأوروبا وأمريكا خاصة وداخل منظومة الأمم المتحدة بكل هيئاتها المتخصصة، ولكن الأساسي هو أن نتساءل: أية مكانة للمغرب في عالم الغد الذي هو قيد التحول؟

إن بلادنا، وبدون أية مبالغة، قد نجحت في تقوية مصداقيتها كدولة جدية ذات شخصية قوية وفعالية في الأداء ونجاعة في تدبير الأزمة .

وهذا التميز يفتح لنا آفاقا جديدة في عالم الغد على الصعيد السياسي والاقتصادي، والقدرة على استقطاب الاستثمارات وإنتاج نموذج للعيش المشترك.

إن تفكيرا شاملا يحتاج اليوم دوائر القرار الاقتصادي والمالي في الغرب حول ضرورة واستعجالية نقل كثير من الاستثمارات الغربية وأساسا الأوروبية من الصين. وللمغرب كثير من المؤهلات للتنافس على استقبال نسبة من هذه الاستثمارات، التي سيتم نقلها.

كما أن أفكارا جديدة بدأت تملأ العواصم الغربية الحليفة لنا حول السيادة الصناعية والاقتصادية، وبالضبط استعادة كثير من استثمارات هذه الدول من الخارج إلى داخل أراضيها. وهذا التوجه قد يؤثر على المغرب الذي يحتضن كثيرا من هذه الاستثمارات. وعليه، فإنه من المستعجل أن نشارك بجد في كل أوراش التفكير في الصياغة الجديدة لعالم ما بعد كورونا فيروس، حتى نكون من المستفيدين من هذه الترتيبات الجديدة وعلى الأقل ألا نكون من ضحاياها.

من أجل أن نمنح بلادنا كل المؤهلات التي ستمكنها من الخروج أقوى من هذه الأزمة، لا بد من قراءة ما أفرزته هذه الجائحة من سلوكات وما كشفت عنه من عوامل ضعف لإصلاحها أو قوة لتجويدها.

إن الأزمة سمحت للعالم والمغاربة بأن يعاينوا على الميدان أن الدولة المغربية بكل امتداداتها الإدارية والسلطوية والأمنية والمدنية والعسكرية والقضائية والاجتماعية هي حقيقة ماثلة للعيان، ونجحت في تأطير البلاد داخل المدن وفي القرى في ظرف قياسي مكن الدولة المغربية من التحكم في مجالها الحضري وفضائها القروي بصيغة مكنت من فرض الحجر الصحي.

وعلى الرغم من كل الصعوبات التي تواجه كل الدول في فرض هذا الحجر الصحي حين تنفذه تحت ضغط الطوارئ الصحية، فإن البلاد حققت في هذا المجال نجاحين :

* النجاح في فرض الحجر الصحي، على الرغم من بعض الصعوبات التي رافقت البدايات.

* حرص كل تدخلات الدولة بكل أجهزتها على احترام سيادة القانون وحقوق الإنسان وحرياته.

الدستور المغربي

ولقد أبانت كل السلط التنفيذية والتشريعية والقضائية عن تعبئة استثنائية، ليجد الدستور المغربي التطبيق السليم والإيجابي الذي يستحقه؛ مما يدعم الممارسة الديمقراطية ويقويها.

وهذا النجاح يعود فيه الفضل إلى جلالة الملك محمد السادس والذي أبان خلال إشرافه الشخصي والمباشر واليومي على قيادة مختلف الإستراتيجيات الوطنية لمواجهة هذه الجائحة، على قدرات استثنائية جعلت العالم ينظر إليه بإعجاب وتقدير كزعيم رائد امتلك منذ بداية الأزمة رؤية استباقية وشجاعة سياسية كبيرة وإرادة قوية مكنته من اتخاذ قرارات شجاعة وحاسمة حصنت بلده، ومكنته من مواجهة هذا الوباء بثقة في النفس وبخطوات جعلته يتحول إلى نموذج ناجح يؤسس لتجربة مميزة في مواجهة الأزمات.

ولعل أهم المعالم الكبرى للمعالجة المغربية هو نجاح الملك محمد السادس في رص صفوف الجبهة الداخلية وخلق تعبئة وطنية واجتماعية شاملة، خلقت مناخية جديدة ونفسية اجتماعية رائعة أشركت في ديناميتها العامة كل الطاقات المغربية من كل الفئات ومن كل الأجيال ومن كل الجهات.

مغرب جديد أطلقته مبادرات محمد السادس، يشتغل فيه المدني بجانب العسكري والغني بجانب الفقير والعامل رفقة العاطل والكل في نفس تضامني أبهر العالم.

الجائحة كشفت حجم الفقر الممتد في بلادنا وارتباك كل السياسات الاجتماعية وعجزها البين، ولكن الإرادة الجديدة في مناخية العمل الجديد مكنت بقيادة مباشرة ويومية من جلالة الملك من تعبئة المواطنين في مشروع وطني جديد لمواجهة هذا الوباء على قاعدة التضامن الوطني والتلاحم والتآزر بين مختلف مكونات المجتمع.

إننا مدعوون إلى التأمل الجدي في طاقات التضامن الجبارة التي تفجرت في بلادنا، وكيف عبرت عن نفسها ماليا واجتماعيا ومدنيا في مختلف المبادرات.

هذه الطاقة التضامنية تعيد البهاء إلى القيم المتأصلة في المجتمع المدني، والتي تجد اسمنتها القوي في تعاليم الدين الإسلامي الحنيف وتقاليدنا الاجتماعية العريقة.

الأزمة أعطت الانطلاقة لميلاد توجه جديد في علاقات المواطن المغربي بإداراته ومؤسساته، وبالتالي عودة الثقة إلى هذه العلاقات التي كانت متميزة بنوع من التوتر وكثير من العجز في منسوب الثقة.

ولا بد أن ندعم هذا التوجه في المستقبل لبناء وشائج الثقة، وذلك عبر تدعيم سيادة القانون والخضوع الجماعي لمقتضياته.

إن جيلا جديدا من الإصلاحات أصبح يفرض نفسه، وعلينا أن نباشر هذا الورش بتوافق وطني وبعيدا عن كل الشعبويات والحسابات الحزبية الضيقة.

المرحلة المقبلة

لإن تحديات المرحلة المقبلة لما بعد كورونا يجب أن يكون الرابح الأول فيها هو الوطن، وهذا يقتضي من كل النخب السياسية والحزبية والاقتصادية والمدنية والنقابية والإعلامية سلوكا جديدا ينبذ كل الحسابات الظرفية لصالح مجهود وطني جماعي يمكننا جميعا تحت قيادة جلالة الملك محمد السادس من بلورة تعاقد اجتماعي واقتصادي جديد يكون المواطن المغربي هو حجر الزاوية وتكون مصلحة الوطن هي هدفه النهائي والأخير.

تدبير الأزمة أفرز أجمل القيم في مجتمعنا من تمسك بأخلاقيات نبيلة، ولكن في الوقت نفسه نبهنا إلى ضرورة الاهتمام بما بدأ يتنامى في هوامش مدننا من ممارسات شاذة لا بد من القضاء عليها قبل أن تفسد أخلاق المغاربة .

إن ما بعد كورونا يجب أن يدفع نخبنا إلى التفكير الجماعي لما يجب أن يكون عليه المغرب غدا: دولة قوية باحترام القانون وحقوق الإنسان، دولة جادة في معالجة العجز الاجتماعي ومحاربة الفقر وكل أشكال الفساد، وآلة حريصة على دعم جبهتنا الداخلية وتلاحم مجتمعنا في مشروع جماعي يستهدف كرامة الإنسان ونهضة البلاد ومناعة الاقتصاد الوطني وتساوي الجميع في الحقوق والواجبات في ظل دولة الحق والقانون.

* وزير سابق وقيادي بارز بحزب”الاحرار”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *