اليوم مات اللقلاق، وغداً قد تموت الأشجار التي لم تجد من يسقيها، وقد يرحل النهر الذي لم يعد أحد يحترمه، وقد تختفي مدينة القنيطرة، نفسها من خرائط الطمأنينة، دون أن تجد من يكتب لها نعياً يليق بها.

*ميمونة الحاج داهي

اليوم، تحت شجرة متهالكة في قلب مدينة القنيطرة، عثرت على لقلاق ميت.

قد يبدو الخبر بسيطا، وقد يمر بلا أثر في مدينة ألفت أن تمر فوقها الفواجع الصغيرة والكبيرة كما تمرّ السحب الثقيلة دون أن تُمطر.

لكنّ موت هذا الطائر، هنا تحديدا، في هذا التوقيت بالذات، ليس موتا عاديا. وليس مجرد صدفة عابرة.

اللقلاق في القنيطرة ليس طائرا فقط.

هو من الرموز الحية التي شكّلت جزءا من هوية هذه المدينة، من ذاكرتها الجماعية، من علاقتها بنهرها وبطبيعتها وبتاريخها الزراعي، قبل أن يتحول كل شيء إلى إسمنت، وتصبح المدينة غريبة حتى عن نفسها.

هذا الطائر، الذي كانت القنيطرة تفتخر بأنه يختارها محطة، وموطنا، وشاهدا على خضرتها وهوائها، وعلى صبر نهرها وزرقة سمائها… وجدناه اليوم مرميا ميتا في شارع وسط ضجيج السيارات والأرصفة المتآكلة.

أي دلالة أقوى من هذه الصورة؟.

أي رسالة أوضح من موت طائر الهجرة والاستقرار، في مدينة باتت بلا وجه، ولا ذاكرة، ولا رفق بالحياة؟.
ليس السؤال هنا: من قتل اللقلاق؟.

بل: ماذا فعلنا بمدينة كانت ملاذاً للطيور، فأصبحت اليوم تُطرد حتى من صمتها؟

أي مدينة هذه التي تخنق هواءها، وتضيّق على شجرها، وتختزل علاقتها بالطبيعة في حدائق إسمنتية مغلقة، بينما لقالقها تموت في الشارع ولا أحد يلتفت؟.

مؤلم هذا المشهد لأنه يلخّص ببساطة ما جرى ويجري لهذه المدينة منذ سنوات: فقدان تدريجي لكل ما كان يمنحها هوية وفرحاً وطمأنينة.

لقد مات اللقلاق، نعم، لكن ما مات أيضاً هو الإحساس العام بالجمال، بالانتماء، بالبيئة، بالحياة نفسها، مات لأن هذه المدينة لم تعد قادرة على حماية رموزها الصغيرة، ولم تعد تسمع رسائل الطبيعة وهي تستغيث.

كان يمكن لهذا الموت أن يحرّك الأسئلة حول التلوّث، حول اختناق الفضاء البيئي، حول هشاشة التوازن الطبيعي بين المدينة ومحيطها.

كان يمكن لهذا الطائر الميت تحت الشجرة أن يكون عنواناً لفتح نقاش بيئي حقيقي، لطرح سؤال التنمية في علاقتها بالإنسان، بالحيوان، وبالطبيعة.

لكن لا أحد سيتوقف، ولا أحد سيسأل، ولا أحد على الأرجح سيعتبر أن في هذا الموت رمزية أكبر من جسد ممدّد تحت غصن يابس.

اليوم مات اللقلاق، وغداً قد تموت الأشجار التي لم تجد من يسقيها، وقد يرحل النهر الذي لم يعد أحد يحترمه، وقد تختفي المدينة نفسها من خرائط الطمأنينة، دون أن تجد من يكتب لها نعياً يليق بها.

ما حدث اليوم ليس نهاية طائر، إنه جرس خافت يُنذر بما هو أخطر: موت مدينة، بهويتها، برمزها، بطبيعتها، بصورتها في الذاكرة.

تأسفت له.

* كاتبة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *