لقد وجدنا – وللأسف – العديد من هؤلاء، ممن كانوا بالأمس يسهرون على تسيير شأنا من شؤون الدولة، وقد احترفوا اليوم العيش على فتات الضجيج، بلا مشروع، ولا رؤية، ولا حتى شرف الخصومة السياسية.

*سعيد أيت باجا

من يتابع المشهد السياسي المغربي بوعي، يدرك أن جزءاً من السجال القائم يستند إلى نقد مسؤول ومعارضة واعية، وهذا أمر صحي في أي ديمقراطية.

غير أن المشهد ملوث بفئة من محترفي الضجيج، ممن احترفوا صناعة الأزمات الوهمية وصياغة خطاب عاطفي يلهب مشاعر الفئات الهشة التي صنعها الإقصاء والتهميش عبر عقود، لا بهدف الإنصاف، بل بغرض ركوب الموجة وتسويق الوهم.

هؤلاء، سواء كانوا من السياسيين المتسلقين أو السياساويين الباحثين عن الأضواء، أو من الصحافيين الذين انقلبوا إلى “صحافاويين” يمارسون الإثارة الرخيصة، يختزلون السياسة في صراع كراسي وحروب مواقع، ويحوّلونها إلى سوق مفتوحة للمزايدات الفارغة.

وبدلاً من مواجهة الواقع بجدية، يختبئون وراء شعارات جوفاء وتحاليل هوجاء، رافعين شعار “نحن أو لا أحد”.

رجل الدولة الحقيقي، حين يمارس السياسة، لا يلهث وراء كاميرات شاشات الهواتف التي أصبحت – وللأسف – أذكى منهم، ولا يبيع الأوهام، بل يشتبك مع الواقع، يتخذ القرارات الصعبة، ويواجه التحديات برؤية متكاملة.

وهنا، يبرز مثال عزيز أخنوش، الذي وجد نفسه أمام إرث ثقيل وسياقات إقليمية ودولية معقدة، فاختار أن يمارس السياسة بلغة الفعل لا بلغة التلاعب بالعواطف، متحملاً المسؤولية بجرأة السياسي المحنك، الذي يدرك قيمة الدولة ومؤسساتها، ويشتغل في تناغم مستمر مع مضامين دستور المملكة ومطامح المجتمع، ومدركاً للتحولات الإقليمية والدولية المتسارعة.

لقد واجه هذا الرجل أزمات طاحنة، من تقلبات الأسواق الدولية إلى تداعيات الجائحة، لكنه أدار الدفة نحو مسار إصلاحي حقيقي: استعادة الحركة في قطاعات الإنتاج، إعادة الاعتبار للفلاحة والصناعة، دعم الاستثمار الوطني والأجنبي، إدخال آلاف الفلاحين والعمال المستقلين إلى نظام الحماية الاجتماعية، وتعزيز البرامج التي تحارب الهدر المدرسي وتفتح أبواب التعليم في وجه أبناء المناطق المهمشة، وتقليص الفوارق الاجتماعية والمجالية، وخفض معدلات البطالة.

هذه ليست شعارات تُرفع في مهرجانات انتخابية، بل إجراءات ملموسة على الأرض لمسها المواطن في حياته اليومية، حتى وإن حاول البعض طمسها تحت غبار المزايدات الرخيصة، التي تحتكم لمنطق الشيطنة المبني على الفكر العدمي المؤسس لليأس الاجتماعي والثقافي والسياسي.

لقد وجدنا – وللأسف – العديد من هؤلاء، ممن كانوا بالأمس يسهرون على تسيير شأنا من شؤون الدولة، وقد احترفوا اليوم العيش على فتات الضجيج، بلا مشروع، ولا رؤية، ولا حتى شرف الخصومة السياسية.

كل ما لديهم هو قاموس شعبوي مليء بالكلمات الفارغة، يلقونها في وجه الرأي العام على أساس أنها حقائق مقدسة، بينما هي في حقيقتها لا تعدو أن تكون أكاذيب مكررة بوجوه مختلفة.

السياسي الحق يبني، يواجه، يقترح، يحاسب، ويدرك أن السياسة مسؤولية قبل أن تكون منصة للخطابة. أما السياساوي، فهو ممثل فاشل على خشبة السياسة المهترئة، همه الوحيد هو لعب دور الضحية تارة، ودور المنقذ تارة أخرى، وكل ذلك من أجل مقعد أو مكسب شخصي.

والصحافي الحر ينقل الحقيقة ويعري الفساد أينما كان، أما الصحافاوي، فهو تاجر في سوق الإثارة، يقتات من العناوين الصادمة والمعلومات المبتورة، يبيع الوهم للناس، ثم يصف نفسه بـ”حارس المصلحة العامة”، بينما هو في الحقيقة حارس لمصلحته الخاصة.

حين يقف رجل الدولة، مثل عزيز أخنوش، أمام تركة ثقيلة ويقرر أن يشتغل بصمت وبخطط واقعية، يخرج هؤلاء ليقولوا: “لا شيء تحقق”. وكأن التنمية تُقاس بعدد الصرخات أمام شاشات ذكية بعقول غبية أو بكمية الشتائم في مواقع التواصل.

إلى هؤلاء نقول: زمن بيع الكلام انتهى. زمن صناعة الأزمات من الهواء انتهى. وزمن استغباء الناس بخطاب التيئيس انتهى. الشعب لم يعد يستهلك شعاراتكم المستعملة ولا يصدق مسرحياتكم الرديئة.

اليوم، المعركة الحقيقية ليست بين حكومة ومعارضة، بل بين من يؤمن أن الوطن يُبنى بالفعل، ومن يريد أن يبقى غارقاً في وحل البؤس السياسي. والتاريخ، حين يكتب، لن يذكر أسماء من صرخوا في الفراغ، بل سيتذكر من حملوا على عاتقهم عبء الفعل، وواجهوا الضجيج بعمل حقيقي.

إن الحكم على تجربة أخنوش لا يكون عبر الانفعال أو الانجرار وراء الشعوبية، بل عبر سؤال واحد: أين كنا وأين أصبحنا؟.

وعند الإجابة بالحقائق لا بالشعارات، سيتضح أن هناك فرقاً شاسعاً بين النقد كأداة لتصحيح المسار، وبين التبخيس كأداة لتصفية الحسابات أو دغدغة العواطف.

والسياسة الحقيقية هي أن نواجه الواقع بعقلانية وواقعية، تمتلك القدرة على إيجاد الحلول البديلة، لا أن تركن إلى إنتاج خطاب الأزمة الذي يتغذى على أزمات مفتعلة.

 

*فنان و مثقف مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *