أعدها للنشر: المصطفى الحروشي

“رجاء لا تطلب مني أن أصمت”.. “اسمح لي بأن أتنفس”… بمثل هذه العبارات يخاطب “اللاجئ” مصطفى سلمى ولد سيدي مولود، القائد السابق لما يسمى بجهاز الشرطة لدى ملشيات جبهة “البوريساريو” من يطالبونه الكف عن خط حكايات بخط اليد حول أهوال الجحيم، هناك في مخيمات الحديد والنار والقمع والحصار في تندوف فوق التراب الجزائري.

جريدة “le12.ma” تنشر طوال الشهر الفضيل حلقات سيرة ذاتية بطلها إنسان بعنوان “الخروج من فم الثعبان” يروي أسرار تفاصيلها مع عاش تفاصيلها.

*لا تطلبوا مني أن أصمت

واصلت رحلتي شمالا، إلى بادية “أم اشكاك”، غرب “بير ام اغرين”، على خط التماس مع حدود الجبهة، ولا يفصلنا “امهيريز”، حيث تسكن والدتي، بأكثر من 100 كلم. نزلت عند خالي، سيد أحمد بندار. وعنده وصلتني رسالة تفيد بأن والدتي ستأتينا في الغد حيث نحن، داخل الأراضي الموريتانية.

توقعت أن سبب مجئ الوالدة إلي، بدل انتظاري، أنها ستكون محمّلة بالرسالة الأخيرة من الجبهة.. وصلت الوالدة وخالي بوزيد، الذي يكبرها سنا. أمضينا يوما وليلة مع. وكانا يحملان رسالتين: واحدة مكشوفة، كما الرسائل السابقة، والأخرى مبطنة، وغير أخلاقية.. فقد جاء أحدهم -وأتحفظ عن ذكر اسمه، لأني ابتداء من هذا الجزء سأبدأ في ذكر الأسماء، حتى يتسنى لإخواني في المخيمات التحقق من كل ما سأورد في حكايتي..

والدتي، التي وجدت نفسها، كما أبنائي، محاطة بجو مشحون من العدائية والتحريض العلني والهمز واللمز ضد ابنها، اختارت، كما هو دأبها، أن تلتجئ إلى الله وتقابل كل ما تسمع وترى وتعيش من سلوكات عدائية بالصمت وعدم التعليق. كانت متيقنة من شيء واحد: أنها تعرف ابنها الذي ربّته على يديها وأنه إن لم يكن يحمل خيرا فبالتأكيد لن يكون شرّا. فالشر ليس من طبعه أصلا.

قلت: جاءتني والدتي مرعوبة من هول ما قيل لها إنه سيحدث لي، ولا يحول بيني وبينه غير أن تطأ قدمي حدود المناطق الصحراوية شرق الحزام من أيّ مكان أو أن أحاول دخول المخيمات.

سألت والدتي هل لاحظت أي تغيير في طبعي او سلوكاتي، هل رأت دبّابة أو جيشا معي منذ وصولها؟! لم تلاحظ أي شي.. ما زلت أنا.. أنا ابنها الساذج الذي غالبا ما تنعته بأنه بلا عقل.

كان أصعب لقاء مررت به هو ذاك اللقاء، فعندما ترى والدتك مرتعبة خشية عليك مما سيصيبك، وليس بيدك ما تخفف به عنها تكون في موقف محرج.

أخذت والدتي إلى خارج الخيمة، وكمن لا يعرف المنطقة، طلبت منها أن تسمي لي الجبال والوديان التي تتراءى أمامنا حتى جبال ارغيوة.. ضحكت، المسكينة، وقالت لي أتحسبني ازددت بالأمس.. وبدأت، كمن يريد التفاخر بأنه ابن البلدة، تسمّي المناطق التي تفصل بين المكان حيث نحن وبين امهيريز.

الصورة توثق آخر مرة رأيت فيها والدتي في منفاي منذ سنوات

وكالمتعجب، سألتها كيف تعرفين كل هذه الأسماء. فبدت كمن لاح أمامه شريط حياته من يوم ولادته حتى اللحظة التي نحن فيها. وعادت لتسمّي الجبال والوديان والشجر والحجر، مع تاريخها فيه. هناك ازداد فلان، وهناك تزوج فلان وهنالك نزلنا عام كذا وهناك فعلنا كذا وكذا.. دون أن تدري ما أريد جرها إليه بسؤالي. ودون ان أسألها، قالت لي كيف تسألني عن مكان ولادتك وولادة إخوت؟.. فأقرانك يحفظون كل هذه الأسماء، فهذه أرضك وأرض أبيك وجدّك.

هنا سألت والدتي هل يحق لأي أحد في العالم بعد ما قلتِ للتو، أن يمنعني من دخول امهيريز؟.. هل السمارة التي فيها والدي هي المحتلة؟ أم امهيريز الذي أنت فيه هو المحتلّ هل المغرب هو الذي شرّدنا من أرضنا أم هؤلاء الذين يريدون أن يشرّدوني الآن من أرضي!؟

بالأمس، اختطفونا من السمارة وقتلوا منا من قتلوا وفرّقونا عن والدنا.. واليوم، يعيدون الكرة من جديد.. بالأمس، فرّقوني عن والدي واليوم يعيدون الكرة.. وعمّ سيفرقوني؟ عنك أنت! وعن أبنائي محمد والمهدي وسلمة والحافظ ومريم، التي لم ارها بعد، كما فعلوا مع والدي منذ سنين، حينما اختطفوك أنت وأنا ومحمد الشيخ فالة والحافظ ومحمد الامين، الذي لم يره بعد لأنه ازداد في المخيمات.. من لك ولهم بعد الله غيري؟ ومن لي من بعدكم؟.. السجن أحب إلي مما يدعونني إليه.. أكون في سجن أو قبر في امهيريز، تزورينني فيه أرحمُ مما يريدون مني. أين سأذهب الآن؟.. ومن أجل من سأذهب؟! عن والدتي وأطفالي وأنا البكر!

الدمع الذي لم أذرف وقتئذ خشية على والدتي، ها أنذا أذرفه الآن بعد أن رحلت إلى دار البقاء دون أن أودعها، لأن الجبهة أبعدتني عن أمي وأبي وكل ما هو عزيز علي لأني تكلمت..

وتريدون مني أن أصمت.. رجاءً، اسمحوا لي بأن أتنفس..

وللحكاية بقية…

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *