إعداد: إلياس زهدي
حلقة 7
العودة إلى بابل -سكوت فتزجيرالد (1896 -1940)
2/1
سأل شارلي:
-وأين السيد كامبل؟
-ذهب إلى سويسرا. السيد كامبل رجل مريض جداً، يا سيد ويلز.
-يؤسفني سماع ذلك.
قال شارلي ذلك وسأل:
-وجورج هارت؟
-رجع إلى أمريكا. ذهب للعمل.
ـوأين الطائر الثلجي؟
-كان هنا الأسبوع الماضي، وعلى أية حال، فإن صديقه السيد شيفر موجود في باريس.
وهما اسمان أليفان في لائحة طويلة من شلة الأصدقاء قبل سنتين ونصف. كتب شارل عنواناً في دفتره وقطع الورقة وقال:
-إذا رأيت السيد شيفر أعطه هذا، إنه عنوان منزل عديلي. لم أستقر في فندق سكوت (sco) بعد.
لم يُصَب بخيبة أمل في حقيقة الأمر حين وجد باريس فارغةً بتلك الكيفية. ولكن الهدوء في حانة فندق “ريتس” كان غريبا واستثنائيا. فعندما توجّه إلى الحانة، وقطع العشرين قدما على السجادة الخضراء وعيناه تنظران إلى الأمام، بحكم عادته القديمة؛ ثم عندما استقرّت قدمه على قاعدة النضد، أدار وجهه وتفحص الغرفة، فالتقت عيناه بزوج واحد من العيون فقط يطلّ من خلف صحيفة في الركن. سأل شارلي عن رئيس الندّل الذي كان في الأيام الأخيرة من السوق المزدهرة يأتي إلى العمل بسيارته الخاصة التي صُنعت وفق متطلباته. وعندما أراد الجلوس ذهب بلطف إلى أقرب ركن. ولكن بول كان في منزله الريفي في ذلك اليوم وحلّ محله أليكس، الذي كان يعطي المعلومات لشارلي.
وقال شارلي:
-لا، لا مزيد من الشراب لي. فأنا أقلل منه هذه الأيام.
هنأه أليكس:
-لقد أكثرتَ منه قبل سنتين.
فأكَّد له شارلي:
-سألتزم بلك حقاً. فقد داومتُ على التقليل من الشرب أكثر من سنة ونصف حتى الآن.
-كيف تجد الأحوال في أمريكا؟
-لم أذهب إلى أمريكا منذ شهر، فأنا أعمل في براغ، أمثّل مشروعيْن، وهم لا يعرفون عني شيئاً هناك.
ابتسم “آل”. قال تشارلي:
-أتذْكُر تلك الليلة التي أقام فيها جورج هارت وليمة العزوبية هنا؟ بالمناسبة، ما الذي حدث لكلود فسندان؟
خفّض ألكس صوته وأسرَّ إليه:
-إنه في باريس، ولكنه لم يعُد يأتي إلى هنا، إذ لا يسمح له بول بذلك. لقد تراكمت عليه فواتير بثلاثين ألف فرنك لقاء مشروباته ووجبات غدائه وعشائه أكثر من سنة. وعندما طلب منه بول، مؤخرا، أن يدفع ما عليه وقع لع شيكا بلا رصيد.
هزَّ الكس رأسه بحزن.
-لا أفهم، رجل أنيق مثله، الآن أفسد كل شيء.
وشبك يديه. نظر شارلي إلى مجموعة من الشواذ الصاخبين وهم يتخذون مكانهم في ركن من الحانة وفكّر “لا شيء يؤثر عليهم. الأسهم ترتفع وتنخفض، والناس يعملون وتصيبهم البطالة، وهم ماضون دوماً.
أحزنه المكان، فطلب النرد وهزه مع أليكس (لمعرفة من يدفع ثمن) المشروب.
-هل ستبقى هنا مدة طويلة يا سيد ويلز؟
-أنا هنا أربعة أو خمسة أيام لرؤية ابنتي الصغيرة.
-أوه ، لديك ابنة صغيرة.
في الخارج سطعت اللافتات الحمراء النارية والزرقاء، الزيتية والخضراء، الشاحبة بصورة ضبابية تحت المطر الهادئ. كان الوقت عصرا وقد دبّت الحركة في الشّوارع وتلألأت الحانات. في منعطف شارع “كوبتشين”، استقل سيارة أجرة. وكان ميدان “كونكورد” يتحرك بالقرب منه في روعة قرمزية. عبرا نهر السين الهادئ وشعر شارلي، فجأة، بالجو الريفي في ضفته اليسرى.
وجّه شارلي سائق سيارة الأجرة إلى شارع “الأوبرا”، الذي لم يكن في طريقه، لأنه أراد أن يرى زرقة تلك الساعة منتشرة على واجهاتها الرائعة ويتخيل أبواق سيارات الأجرة تعزف بلا نهاية الجمل الموسيقية الأولى في مقطوعة “رقصة الفالس الأبطاْ”، بمثابة أبواق الأمبراطورية الفرنسية الثانية. كانوا يغلقون الباب الحديدي المشبَّك لمكتبة برنتانو وكان أناس قد اتخذوا أماكنهم في مطعم دوفال، خلف سياجه المكوَّن من شجيرات. لم يأكل من قبل في مطعم رخيص حقاً في باريس، عشاء من خمسة أطباق مقابل أربعة فرنكات ونصف، ما يعادل ثمانية عشر سنتا، بما في ذلك النبيذ. ولسبب غريب، تمنّى لو أنه كان قد فعل.
وفيما كانوا يتنقّلون في الضفة اليسرى، وقد شعر فجأة بالطبيعة الريفية للمنطقة، فكّر “لقد أفسدتُ هذه المدينة على نفسي. فأنا لم أتعرَّ حقيقتها، ولكن الأيام توالت الواحد تلو الآخر، ثم انقضت سنتان، وذهب كلُّ شيء وذهبتُ أنا”.
كان في الخامسة والثلاثين، ومرآه يسرّ الناظر. وكان صفاء وجهه الإيرلندي لا تشوبه شائبة سوى تقطيبة بين عينيه. وفيما كان يقرع جرس منزل عديله في شارع بالاتين، ازدادت تلك التقطيبة عمقا، حتى سحبت حاجبيه إلى الأسفل، فقد شعر بتشنّج في معدته. ومن خلف الخادمة التي فتحت الباب، اندفعت صبية صغيرة في التاسعة من العمر، صائحة “بابا!”.. وقفزت جاهدة، مثل سمكة، بين ذراعيه. أدارت وجهه بجرِّ إحدى أذنيه وألصقت خدها بخده، قال:
-يا حلوتي القديمة.
-أوه، بابا، بابا، بابا، بابا، با، با، با، با.
وجرّته إلى الصالون، حيث كانت العائلة في انتظاره ولد وبنت في سن ابنته وأخت زوجته وزوجها. سلّم على السيدة ماريون وهو يتحكم في نغمة صوته بعناية، ليتحاشى إظهار مودة غير حقيقية لها أو نفور منها. ولكن جوابها كان أكثر صراحة، فقد جاء فاترا رغم أنها قلّلت من تبيان عدم ثقتها فيه بتوجيه نظراتها إلى ابنته. وتصافح الرجلان بصورة ودية وأبقى لنكولن بيترز يده على كتف شارلي للحظة.
كانت الغرفة دافئة ومريحة ومؤثثة بطريقة أمريكية. وانتقل الأطفال الثلاثة بصوة ودية، للَّعب، عبر المستطيلات الصفراء التي تقود إلى الغرف الأخرى. وامتزجت دقات الساعة السادسة بطقطقة النار في المدفأة وأصوات النشاط الفرنسي في المطبخ. ولكن شارلي لم يكن مرتاحا، فقلبه متأهّب بتصلب في بدنه. وكان يستمد الثقة من ابنته، التي كانت تأتي بين وقت وآخر بالقرب منه، وهي تحمل بين يديها الدمية التي جلبها لها.
-في الواقع، ممتاز جداً.
هكذا أجاب على سؤال لنكولن، وتابع:
-ثمة كثير من الأعمال لا تتقدم، ولكننا نحقق نجاحا أفضل من أي وقت مضى. في الحقيقة، ممتاز جدا. وأنا سآتي بأختي من أمريكا الشهر المقبل لتدبير منزلي. فدخلي في العام الماضي أكبر مما كان عندما كان لدي المال. فكما تعرف، فإن التشيك…
كان تفاخره لغرض مخصوص. ولكن بعد وهلة، حين لاحظ نوعا من الملل في عيني لنكولن، فغيّر الموضوع:
-إن طفليك طيبان، ذوا تربية جيدة وعلى أخلاق كريمة.
-ونحن نظن كذلك أن هونوريا صبية رائعة.
عادت ماريون بيترز من المطبخ. كانت امرأة طويلة ولها عينان قلقتان، كانت لهما ذات يوم طراوة وفتنة أمريكية. ولم يكن شارلي منجذبا إليها قط وكان يستغرب، دائما، عندما يتحدّث الناس عن جمالها الفتّان في السابق. فمنذ البداية، كانت بينهما كراهية غريزية. وسألتْ:
-حسناً، كيف تجد هونوريا؟
-رائعة، وأنا مندهش كم كبرت خلال عشرة شهور. وجميع الأطفال يبدون بصحة جيدة.
-لم يزرنا طبيب منذ عام. هل تحب أن تعود إلى باريس؟
-غريب ألا نرى في باريس إلا القليل من الأمريكيين اليوم.
قالت ماريون بصرامة:
-أنا مسرورة بذلك. فالآن تستطيع أن تذهب إلى السوق دون أن يفترضوا أنك مليونير. لقد عانينا مثل الجميع، ولكن الوضع ألطف بكثير.
قال شارلي:
-ولكنها كانت لطيفة. فقد كنا نعامَل كملوك، معصومين تقريبا مع نوع من السحر حولنا. في الحانة، عصر هذا اليوم…
تلعثم، وقد أدرك غلطته:
-لم يكن ثمة رجل أعرفه!
نظرت إليه بحدّة:
-كنتُ أظن أنك اكتفيت من الحانات.
-بقيتُ هناك دقيقة واحدة. فأنا أتناول مشروبا واحدا كل يوم بعد الظهر ولا مزيد.
وسأل لنكولن:
-ألا تريد كوكتيل قبل العشاء؟
-أتناول مشروبا واحدا كل مساء. وقد تناولت كأسي اليوم.
قالت ماريون:
-آمل أن تلتزم بذلك.
كان كرهها له باديا في الطريقة الباردة التي تتكلم بها، ولكن شارلي ابتسم فقط، فقد كانت لديه خطط أوسع. فعدوانيتها كانت في صالحه. وهو يعرف ما يكفي لحمله على الانتظار. كان يريدهم أن يبدؤوا الحديث عن أسباب قدومه إلى باريس.
وأثناء العشاء لم يستطع أن يقرّر ما إذا كانت هونوريا تشبهه هو أكثر أم أمها. من حسن الحظ أنها لم تجمع صفاتهما التي أودت بهما إلى الكارثة. وغمَره شعور أبويّ بحمايتها. وحسب أنه يعرف ما ينبغي أن يفعل من أجلها. فهو يؤمن بالأخلاق وكان يتمنى لو يعود إلى الوراء جيلا كاملا ويعيد الثقة في الأخلاق مرة أخرى، بوصفها العنصر القيّم أبدا. كل شيء آخر يبلى ويضمحل إلا الأخلاق.
غادر بعد العشاء مباشرة، ولكنْ لا ليذهب لغرفته، فقد كان متحمّسا لرؤية باريس في الليل بعينين أصفى وأكثر تمييزا من عينيه في الأيام الخوالي. وحجز تذكرة لمقعد في الكازينو وشاهد الفنانة جوزفين بيكر في استعراضها المتنوع.
بعد ساع،ة انصرف وتمشّى على مهل في اتجاه حي مونتسمارتر، عن طريق شارع البيغال والساحة البيضاء. كان المطر قد توقف وثمة قليل من الناس في ملابس السهرة وهم ينزلون من سيارات الأجرة أمام أبواب الملاهي والعاهرات يتجولن، مثنى وفرادى وكان هناك العديد من الزنوج. ومرّ بباب مضاء تنبعث منه الموسيقى وتوقّف، بشعور من الألفة. فقد كان هذا ملهى بركتوب، حيث حضر كثيرا من الحفلات وأنفق الكثير من المال. وبعد بضعة أبواب، وجد ملتقى قديما آخر، ومن غير حذر مدّ رأسه في داخله. وسرعان ما صدحت الموسيقى وقفزت راقصتان على أقدامهما وأسرع إليه رئيس الاندل، صائحا:
-سيصل الجمع حالاً، سيدي.
ولكنه انسحب بسرعة. وفكّر “لا بد أنك ثمل جدا”.
كان ملهى زيلي مغلقا والفنادق الرخيصة المشؤومة والكئيبة القريبة منه مغلقة. وبعد ذلك، في شارع بلانش، كان هناك ضوءٌ أكثر وجمعٌ من عامة الفرنسيين. واختفى ملهى “كهف الشاعر” ولكن فمَي “مقهى الجنّة” و”مقهى النار” ما زالا متثائبين، بل فاغرين، مستعدّين لالتهام محتويات ضئيلة لفظتها حافلةُ سياح، ألماني وياباني وزوج أمريكي لمحاه بعيون مذعورة.
ثمَّة الكثير من جهود حي مونمارت وبراعته. فبدل الرذيلة والضياع فيه، كان على نطاق طفولي كبير. وفجأة أدرك معنى “الإسراف في الشراب”، الإسراف في الشراب في فراغ، لتجعل من شيء ما لاشيئا. وكل انتقال من مكان إلى آخر هو بمثابة قفزة بشرية كبيرة وزيادة في الإنفاق من أجل حركة أبطأ وأبطأ.
تذكَّرَ كيف أُعطِيت ورقة نقدية من فئة ألف فرنك لفرقة موسيقية من أجل عزف أغنية واحدة وكيف أُلقيت ورقة نقدية من فئة مائة فرنك على البوّاب لاستدعاء سيارة أجرة.
ولكنها لم تُعطَ من أجل لاشيء. فقد كان مُقدّرا أن تُعطى، وحتى أكبر مبلغ تمّ تبذيره من أجل قدر مقتضاه أن يتذكّر الأشياء التي تستحق التذكّر حقا، الأشياء التي تتذكّرها الآن البنت التي وُضعت في وصاية غيره وزوجته التي ذهبت إلى قبرها في فيرمونت.
وفي ضوء مطعم، خاطبته امرأة، اشترى لها بعض البيض والقهوة، ثم أعطاها ورقة نقدية من فئة عشرين فرنكاً، وهو يتجنّب نظرتها المشجّعة، ثم استقل سيارة أجرة إلى فندقه.
