إنها لمصادفة عجيبة أن تتوفر مدينة فاس الآن على طبيب بروفيسور برتبة والي جهة، وطبيب في منصب عمدة، وطبيب في منصب عامل على إقليم مولاي يعقوب، ومع ذلك فالمدينة تحتضر بسبب أمراض مزمنة كثيرة.

ومن يزور فاس ويرى الزهور والورود والنافورات على طول شوارع الحسن الثاني وعلال بن عبد الله ومولاي يوسف، يظن أنه في واحدة من مدن السويد، لكنه وبمجرد ما ينزل إلى ظهر المهراز وعوينات الحجاج وبن دباب والمدينة القديمة وحي المسيرة وغيرها من التشوهات العمرانية ويرى كل تلك المباني العشوائية ومطارح الأزبال والبيوتات العتيقة المسنودة بالعوارض الخشبية، حتى يظن نفسه في كابل أو مزار الشريف.

وإنه لمن المخجل أن تكون بيوتات عاصمة العلم والعلماء اليوم مهددة بالانهيار فوق رؤوس سكانها، بعد أن شحذ بهم مسؤولو الحكومات وجمعية فاس سايس في أروقة البنك الدولي وردهات منظمة اليونيسكو حاملين تحت أذرعهم مشروعا وهميا اسمه «مشروع إنقاذ فاس» انطلق منذ 1973 وتوقف في بداية ألفين بسبب نهب الإعانات المالية التي كانت ترسلها هذه المؤسسات العالمية كل سنة إلى الجهات التي رشحت نفسها لمهمة الإنقاذ.

أتذكر عندما كتبت تحت هذا الركن نفسه قبل خمس وعشرين سنة عمودا تحت عنوان «العكر الفاسي» انتقدت فيه الطريقة البهلوانية في تزويق بعض الأماكن والشوارع في فاس، وشبهتها بالعجوز التي يقوم المسؤولون بطلي العكر الفاسي على شفتيها لكي تبدو أصغر من سنها في أعين السياح.

وانتقدت كيف أن جمعية فاس سايس التي كان يرأسها آنذاك القباج، قامت بترميم الأماكن التاريخية التي تستغلها في مهرجان الموسيقى الروحية السنوي الذي كانت تشرف عليه. فغضب المستشار القباج، واتصل بالراحل نور الدين الصايل مدير القناة الثانية آنذاك حيث كنت أشتغل، وطلب منه توقيفي عن كتابة عمودي. وامتثل الصايل للأسف لرغبة المستشار واستدعاني إلى مكتبه وخيرني بين تقديم استقالتي من القناة والاستمرار في الكتابة وبين التوقف عن الكتابة والاستمرار في العمل بالقناة.

وبعد أخذ ورد قبل المدير بأن أكتب مرة في الأسبوع. ولم أعد للكتابة اليومية إلا بعد أن أقيل هذا الأخير من منصبه وألحق بالمركز السينمائي المغربي.

فالماسكون بزمام الأمور في فاس، من حي كاليفورنيا بالدار البيضاء، لا يحبون من يحاول إزالة آثار هذا «العكر الفاسي» من فوق الشفاه المشققة لمدينة عريقة تحتضر ببطء تحت أقدام بعض الجهلة والأميين وأشباه المسؤولين.

ومنذ ذلك العهد إلى اليوم توالى على فاس ولاة وعمال ورؤساء جماعات عجزوا جميعهم عن تعويض العكر الفاسي بمشروع مدينة حقيقي.

وقد استبشر الفاسيون بوصول ابن مدينتهم الجامعي إلى مقر الولاية مكان الوالي زنيبر الذي كان يدخل مكتبه ويغلق بابه عليه طيلة النهار، لكن «خفة الرجل» التي ارتكبها الجامعي بمخالفته للإهابة الملكية ونحره لأضحية العيد عجلت بالإطاحة به تاركا لخلفه العشرات من المقاولين الذين «قاولهم» بمشاريع عندما «بات الوالي ما صبح».

وها نحن نرى اليوم كيف تحولت فاس إلى بؤرة اجتذبت انتباه وسائل الإعلام الدولية بسبب مأساة انهيار عمارتين بحي المسيرة، بسبب «فساد العمران» الذي ينخر هذه المدينة المظلومة.

ومجددا سنضطر لإعادة النقاش حول الجهة المسؤولة «فعليا» عن وقوع مثل هاته الكوارث، بعدما سبق لنا في هذا العمود وبهذه الجريدة، أن قمنا بالتنبيه في أكثر من مناسبة من مغبة التساهل مع الفوضى التي يعرفها قطاع التعمير على صعيد كافة عمالات وأقاليم المملكة، غير أن فاجعة حي المسيرة بفاس، والتي لا تتعلق بانهيار منازل تندرج ضمن منطقة «المدينة القديمة»، وإنما بمجموعة من المباني التي تم تشييدها لفائدة مستفيدين من برنامج إعادة الإيواء سنة 2006، والذين تم الترخيص لهم بالحق في بناء طابق أرضي وطابق أول، ومنذ ذلك الحين، قام الكثير من المستفيدين ببناء طوابق إضافية حولت تلك المباني إلى عمارات من أربعة طوابق ومنهم من أضاف طابقا خامسا فوق وعاء عقاري بمساحة صغيرة، مع أن أساسات تلك البنايات لا تتحمل كتلة الضغط الذي تشكله الطوابق العلوية المضافة عشوائيا، وطبعا كل ذلك تم في غياب التراخيص المطلوبة والمفروض استصدارها من المصالح المعنية بالجماعة. ويقينا فقد كان يمكن تفادي هاته الفاجعة لو أن موظفي وزارة الداخلية من القائد إلى رئيس قسم الشؤون الداخلية بولاية فاس، مرورا بالباشا، رفقة موظفي الجماعة الترابية الذين كانوا حينها يملكون صلاحية مراقبة أشغال البناء، وتحرير محاضر بشأن المخالفين، فضلا عن مسؤولية الوكالة الحضرية، قاموا جميعهم بواجبهم في تطبيق القانون، ولما كانت أرواح أولئك المواطنين ستزهق تحت الركام.

الجميع، بمن فيهم والي جهة فاس مكناس، والكاتب العام بالولاية ورئيس قسم الشؤون الداخلية، والمنتخبون، يعلمون أن السلطات المحلية تتوفر على جيش من أعوان السلطة، الذين يستحيل أن توضع قطعة آجور واحدة دون أن يعلموا بأمرها ويخبروا رؤساءهم المباشرين، وحتى لو تم التغافل عن ذلك بسوء نية من طرف «عون السلطة» المفروض فيه «الإخبار والاستخبار»، فإن كافة رؤساء أقسام الشؤون الداخلية لديهم فريق مهمته مراقبة الجميع، وإخبار رؤسائهم بأية مستجدات، خاصة في مجال البناء.

بل الأغرب من ذلك كيف للسلطات المحلية أن لا تكون على علم بهذه الفوضى وهي التي أشرفت على تنظيم إحصاء سنوي للسكان والسكنى خلال محطتين، وكان حينها القياد والباشوات يسهرون على مواكبة العملية، ويتوصلون بتقارير دقيقة حول البنايات وعدد أفراد سكانها، وحتى حول طبيعة عقود السكن وعدد الطوابق المبنية فعليا فوق عقار مخصص فقط لبناء طابق أرضي وطابق أول.

المسؤولية واضحة ولا يجب أن نحاول إخفاء الشمس بالغربال، وهي مسؤولية تتحملها السلطات المحلية والولائية على حد سواء، ثم يأتي الدور على المجالس المنتخبة التي نتساءل عن خلفيات تعطيلها مراقبة أشغال البناء، وتعطيل إجراء «إشعار» السلطات بالطوابق المبنية عشوائيا، للتنصل من المسؤولية.

وهذا يحيلنا أيضا للحديث عن ظروف إصدار «شهادات إدارية» من طرف المصالح الجماعية لفائدة بنايات عشوائية لا يتوفر أصحابها على التراخيص والتصاميم المطلوبة ومع ذلك تم السماح بربطها بشبكة الكهرباء والماء الصالح للشرب، وهذا لوحده كان كافيا لتشجيع بقية المستفيدين على بناء طوابق عشوائية، مما يستدعي فتح تحقيق قضائي بخصوص المصادقة على تصحيح إمضاءات عقود «كرائها» والعقود العرفية التي تتعلق ببيع ما يوصف «بحق الهواء».

وربما لا يعلم كثير من الناس أن حي المسيرة، الذي نأمل أن يتداركه المعنيون بإنفاذ القانون حتى لا يتحول إلى مقبرة جماعية، شهدت جل البنايات به إضافة طوابق علوية بشكل عشوائي، وهذا يشكل تهديدا حقيقيا للبنايات المجاورة. وهنا يبقى السؤال العريض، كيف تم السماح بالبناء العشوائي لمستوى بلغ درجة من الخطورة على قاطنيه، في غياب أي تدخل من السلطات، كما نتساءل عن صدقية «التقارير» المتوفرة لدى قسم الشؤون الداخلية بخصوص الحد من تنامي ظاهرة البناء العشوائي، وما مصير المخالفات التي تم تحريرها في وقت سابق، لحماية «المسؤولين» من أي مساءلة دون أن يتم تفعيل قرارات الهدم الفوري وإغلاق الورش، لأن إجراء تحرير المخالفة لا يعد مجديا في غياب تعطيل مسطرة الهدم.

*رشيد نيني [email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *