عبد الباري عطوان
مواضيع أخرى تطرقنا لها في اللقاء الذي استغرق ما يقرب الساعة، بعد ظهر يوم الاثنين الماضي (8 أبريل 2019) واقتصر علينا وحدنا دون مستشارين ودون تصوير.. ولكن لا يُمكن عدم ذكر سؤال مهم يتعلّق بالمُستقبل، إذ سألت الرئيس ماذا ستفعل بعد أن تُغادر هذا القصر، هل ستعتكف في الصّحراء التي يعشقها كل الموريتانيين وتعتزل السياسة وتنخرط في الكتابة (ربّما الشعر) أم ماذا؟ أم هل ستعود إلى الحُكم في فترةٍ لاحقة، إذا فاض بك الحنين للسّلطة؟
ابتسم الرئيس، وهو ونادر الابتسام بالمُناسبة، وقال لي “أنا أنتمي إلى حزب سياسي، وسأظل أعمل في نطاقه وأعزّز مُؤسّساته وأتابع الحياة السياسيّة والاقتصاديّة في البِلاد، وإذا كانت هُناك حاجة إلى العودة، وبرغبةٍ شعبيّة وحزبيّة، عبر صناديق الاقتراع، سأدرُس الأمر، وحينذاك لكُل حادث حديث”.
لم أرد أن أكون ضيفا ثقيلا، فلم أطلب لقاء صحافيا، وأنا أتحاشى المقابلات الصحافية التقليدية، فمُنذ لقائي الشّهير مع زعيم تنظيم القاعدة الشيخ أسامة بن لادن لا أذكر أنّني أجريت حديثا صحافيا مُسجلا وتقليديا، ولهذا قرّرت الرّحيل، خاصّة أنني شعرت، من خِلال “كيمياء” وجه الرئيس، أنّ وقتي انتهى، وهذا ما حدث.
بعد أن غادرت، وبعد أن جلست في السيّارة طلبت من السائق ألا ينطلق، وعُدت إلى داخِل القصر وطلبت من رجال البروتوكول (كانوا اثنين فقط والثّالث حاجب) أن أسأل الرئيس سُؤالا مهما، ففتحوا لي الباب، وكان قد انتقل إلى مكتبه المُتواضع جدا، وسألته عمّا إذا كان يسمح بنشر بعض ما دار في الحديث، فقال لي انشر ما تشاء.
***
أعترف بأنّني وجدت حُبا وتقديرًا في هذا البلد (موريتانيا) لم أجده في أيّ بلدٍ آخر، فقد كدت أن أفقد ثقتي في الكثير من المُسلمات، وبعض المواقف والمشاعر الشعبيّة العربيّة الإسلامية الوطنية، والسّبب هو الجيوش الإلكترونية المُضَلّلة على وسائل التواصل الاجتماعي، وفي مُعظم الإمبراطوريّات الإعلاميّة الخليجيّة دون أيّ استثناء، ولكن الشعب الموريتاني الأصيل أعاد إليّ الثّقة بأنّ هذه الأمّة ما زالت بخير وما زالت تقبِض على قيمها وعقيدتها وثوابتها،بكُل قوّة وإصرار، يُعارضون التّطبيع بشراسة لم أرها في جميع الدول العربيّة، وينفجِرون غضبًا حين يتم ذكر الغزو والحِصار الأمريكيين للعِراق وإعدام صدام حسن.
المرأة الموريتانيّة، ذات الوجه المُشرق المَلفوح بسُمرة شمس الصّحراء، وأسماؤها العربيّة الإسلاميّة المُتميّزة، وشِبه المُنقرضة، في مُعظم الدول الأُخرى، تلعب دورًا سياسيا وثقافيا وإعلاميا بارزًا، ويكفي الإشارة إلى أن الدعوة للزيارة جاءت من قبل شبكة الصحافيات الموريتانيّات، وكان هذا أحد أسباب قُبولي لها، إذ أشرفت الشّبكة على تنظيم المُلتقى الإعلاميّ الأوّل، حيثُ لا “كِبار قوم” ولا “جوائز″، ولا محسوبيّات ولا نِفاق، مِهَنيا أو سياسيّ أو قبَليا، أو تمييز، سياسيا أو مناطقيّا، إنّه التّسامح الحقيقيّ في أبرز صُوره وأشكاله.
معظم النساء الموريتانيات يَمِلن إلى الامتِلاء جسمانيا، أو بالأحرى “سمينات”، وقيل لي إنّ السّمنة هي أحد معايير الجمال، وعندما سألت إحدى الطّالبات الموريتانيّات “الرّشيقات” التي كانت بين حُضور مُحاضرتي في جامعة نواكشوط، كيف شذّت عن هذه القاعدة؟ قالت إنّها تُمارس الرياضة وتُحافظ على قوامها، ولكن مُعظم الرجال، وحتى الشّباب، ما زالوا يُفضّلون المُكتنزات، ولهذا لم تتزوّج بالسّرعة المَأمولة.. وتمنيّت لها زواجا سريعا وتحسّرت على أيّام الشباب!
الظّاهرة الأخرى التي تتباهى بها السيّدات الموريتانيّات أن الزواج سهل والطّلاق أسهل، فمُعظمهن يحتفلن بطلاقهن، ويتهافت عليهن طلاب الزوّاج حتى قبل أن يكملن عدّتهن، وكلّما تعدّدت مرّات زواج المرأة زاد مهرها والإقبال عليها.
أختُم بالقول إنّني تعرّفت على بلدٍ جميل، مُتواضع، يعيش حياة هادئة، مُتصالح مع نفسه، ومع جيرانه، مُتمسّك بهُويّته العربيّة وعقيدته الإسلاميّة، قانع بإمكاناته الماديّة المحدودة، وحياته البسيطة التي تجمع بين الأصالة والحد الأدنى من الحداثة، وما زال يستمتع بالتّمر وحليب النّوق، وكان لي من الاثنين نصيب.
ربّما تكون أحكامي غريبةً في نظر البعض، وربّما يُجادل بعض البعض بأنّ زيارة بضعَة أيّام ليست كافية لإطلاق الأحكام، ورسم صورة ورديّة، فهُناك نواقِص عديدة، وهذا صحيح، ولكنّني أكتب انطباعاتي هذه، ومن موقع المُنحاز إلى هذا البلد وأهلِه، وقولوا ما شِئتُم!
