في لحظة وطنية دقيقة، تتقاطع فيها الإكراهات الدولية مع التحولات الإجتماعية العميقة، يفرض النقاش العمومي قدرا أعلى من الإنصاف السياسي والقراءة الهادئة، بعيدا عن منطق المحاباة أو المزايدة.
ذلك أن تقييم التجربة الحكومية لا يمكن أن يتم بمنظار أحادي، ولا بمنطق الكل أو لا شيء، بل عبر ميزان الإنجاز وجودة التدبير، ونجاعة التواصل.
لقد راكمت الحكومة، خلال ولايتها الحالية، منجزات ملموسة في أوراش كبرى تندرج في صلب التوجهات الملكية لبناء مغرب صاعد؛ يقوم على الدولة الإجتماعية والعدالة المجالية، وتعزيز السيادة الإقتصادية.
ويكفي التذكير بورش تعميم الحماية الإجتماعية باعتباره تحولا بنيويا غير مسبوق في تاريخ السياسات العمومية؛أدى إلى نقل المغرب من منطق التدخل الظرفي إلى منطق الحق الإجتماعي المؤسَّس.
كما تم إطلاق آليات الدعم الإجتماعي المباشر، وإعادة هيكلة منظومة الدعم، بما يضمن نجاعة أكبر واستهدافا أدق للفئات المستحِقَّة.
وفي الإطار ذاته، يندرج مرسوم دعم الأيتام الذي صادق عليه المجلس الحكومي مؤخرا كأحد القرارات ذات الحمولة الإجتماعية والإنسانية .
فهذا المرسوم لا يُعَدُّ إجراء تقنيا معزولا، بل يمثل تكريسا عمليا لروح الدولة الإجتماعية ، وانتقالا واضحا من منطق الرعاية الظرفية إلى منطق الحق الإجتماعي المؤطَّر قانونيا، بما يضمن كرامة اليتيم واستمرارية الدعم، وإدماجه في مسار التنمية بدل تركه عرضة للتهميش.
ويحمل هذا القرار دلالة سياسية واضحة على أن التوجيهات الملكية حين تُترجَم إلى سياسات عمومية، تصبح فعلا اجتماعيا ملموسا ،بعيدا عن الشعارات الظرفية .
اقتصاديا، ورغم سياق دولي مضطرب يتسم بارتفاع الأسعار وتباطؤ النمو العالمي، استطاعت الحكومة الحفاظ على التوازنات الماكرو-اقتصادية، ودعم الإستثمار، ومواصلة تنزيل الأوراش الصناعية والطاقية الكبرى، انسجاما مع الرؤية الملكية التي تراهن على اقتصاد منتج و متنوع، و مندمج.
غير أن الإشكال الحقيقي لا يكمن في غياب الإنجاز، بل في ضعف التواصل السياسي المصاحب له.
فالحكومة اشتغلت أكثر مما تواصلت، وأنجزت أكثر مما شرحت، ما فتح المجال لخطابات تبسيطية، وأحيانا شعبوية، استثمرت الفراغ التواصلي بدل الإنخراط في نقاش عمومي جاد حول السياسات العمومية. والتواصل، في الديمقراطيات الحديثة، أداة حكامة و مسار ثقة بين القرار والمواطن.
وفي موازاة هذا الإختلال، تطفو على السطح أعطاب أعمق داخل المشهد السياسي والحزبي، لعل أخطرها استمرار منطق الامتيازات الموروثة داخل بعض التنظيمات.
ففي مفارقة صارخة مع روح القرن الواحد والعشرين، ما تزال فئات عاجزة عن التنافس بالكفاءة والمشروع، تلجأ إلى الشعوذة وأساليب بدائية لتعبيد طريق نجاح سياسي وهمي. وحين يعجز الخطاب العقلاني عن الإقناع، يستدعى الوهم و تحضر الخرافة.
إن خطورة هذه الممارسات لا تكمن في بعدها السلوكي فقط، بل في أثرها المدمِّر على المنظومة السياسية ككل؛ إذ تُكرِّس الرداءة، وتُغلِق أبواب التجديد، وتُحوِّل الأحزاب من فضاءات للتأطير وصناعة النخب إلى دوائر مغلقة تتحكم فيها عائلات ما تزال تسيطر على القرار السياسي، وتُورِّث المواقع كما تُورَّث الأملاك، في تناقض صارخ مع روح الدستور ومنطق الدولة الحديثة.
ويزداد هذا الوضع تعقيدا مع غياب ثقافة العمل الجماعي داخل جزء من النخب السياسية، وهو غياب لا يمكن اعتباره خللا تنظيميا عابرا، بل انتكاسة حقيقية في تمثل النخب لوظيفتها التاريخية.
ففي زمن تبنى فيه الدول الحديثة على الذكاء الجماعي، وتكامل الكفاءات، والعمل المؤسساتي، ما تزال بعض النخب تُفضِّل منطق الزعامة الفردية وتدبير المواقع بدل تدبير المشاريع، مما يُفرِغ العمل السياسي من بعده التشاركي، ويُضعِف قدرته على إنتاج حلول مستدامة. وهنا تصبح الأزمة أزمة نخب قبل أن تكون أزمة سياسات، وانتكاسة في الوعي قبل الأداء.
ولا يكتمل تشخيص المشهد دون التوقف عند أدوار المعارضة. فالممارسة الديمقراطية السليمة تميِّز بوضوح بين معارضة بناءة تؤدي وظيفتها الدستورية بوعي ومسؤولية، تراقب وتنتقد وتقترح البدائل، وبين معارضة هدَّامة لا ترى في أي منجز قيمة تُذكَر ما دام لم يُنجَز باسمها. هذه الأخيرة تُعارِض الفعل لا لخلل فيه، بل لأنه لا يخدم حساباتها الضيقة، فتتحول من معارضة للحكومة إلى معارضة للمنجز ذاته.
إن معارضة الإنجاز فقط لأن الآخر أنجزه، تُربِك المواطن، وتُفرِغ النقاش العمومي من محتواه، وتُضعف مسار الثقة في السياسة. وهي، في جوهرها، معارضة ضد المصلحة العامة قبل أن تكون معارضة ضد الحكومة، لأنها تُقايِض الدولة بالتموقع السياسي.
في ظل قيادة ملكية واضحة اختارت الإصلاح العميق، وتجديد النخب، وربط المسؤولية بالمحاسبة، لم يعد مقبولا استمرار هذه السلوكات المتجاوزة، سواء داخل الأغلبية أو المعارضة. فمغرب المستقبل لا يبنى بالشعارات ولا بالأوهام، بل بالكفاءة، والإستحقاق، والعمل الجماعي، وبخطاب سياسي صادق .
إن الرهان الحقيقي اليوم ليس فقط في مضاعفة الإنجازات، بل في إعادة الاعتبار للتواصل السياسي ، وتجديد الممارسة الحزبية، وبناء نخب قادرة على الإشتغال الجماعي، ومعارضة قوية وذكية تُغْني التجربة الديمقراطية بدل إضعافها.
فالمواطن المغربي، في زمن الدولة الإجتماعية والمشروع الملكي الطموح، أصبح أكثر وعيا وأكثر إلحاحا، ولن يقبل بعد اليوم سياسة بلا معنى، ولا خطابا بلا أفق.
* الدكتور جمال العزيز
