عبد الرزاق بوتمُزّار

اليـوم الـ23

دقائق بَعد الثالثة.. يرنّ الهاتف، في الطرفِ الآخر “مسخوطُ صحـافة”، زميل، كنتُ قد تلقيتُ وإياه دعوة للإفطار في العاصمة. فشلتْ مُحاولتُنا الأولى لتلبية الدّعوة (يوم الاثنين الأخيـر) بسببِ ذلك الشّباك الإلكترونيّ الغبيّ.. (تذكـُرون؟.. اليـوم العشرُونّ).. هذه المرّة اتخذتُ احتياطاتي: سحبتُ ما يكفي ثمنا للرّحلة يـوما من قبلُ. ومثلي فعَل، اتخـذ الاحتياط..

بعد قليل، حضر المسخوط. سرنا نحو الدّار البيضاء -الميناء. بعد وصولنا بدقائقَ قليلة، أقلع القطار في اتجاه الرّباط. وقد انتهى من مُكالمة طويلة، خضنا في أحاديثَ جانبية على وقع “الأزمـة”.. كـان في اجتماع في المطبوعة حيث يشتغل.

أخبروهُم -بعدَ مُقدّمات طويلة- بأنْ ليس هُناك منحة، كما توقعتْ أحلامُهم (وتوقعتْ أحلامُنا).. سألتُني: ما جدوى بعـض المُقدماتِ -خصوصا إنْ كانتْ طويلة- حين ينتهي المقول الذي ترِدُ فيه بكلمات من قبيل “نأسف” أو “لكنْ” أو “إنّما؟!..

كانتْ علاماتُ الحنَق بادية على قسمات وجهه الطفوليّ، كما لـو اختار أن يُفجّر كلّ الغضب في تلك الضّحكات الصّاخبة الـّتي يُطلق بين الفينة والأخرى..

على غير العادة، لمْ تتأخر الدّابة الحديدية. اتخذنا ركنا قصيا في الطابق الثاني من القطار الرّابط بين الدّار البيضاء والقنيطرة. وصلنا، في الوقت المُحدَّد، إلى محطة الرّباط -أكدال. ترجّلنا. “من أجل سلامتكم المرجو استعمالُ الممرّ الأرضيّ حفاظا على”… عملاً بـ”النصيحة” الغالية التي أطلق الصّوتُ الأنثويّ الرّخيم، قصدْنا الممرّ الأرضيّ، أسفل المحطة. على بُعد خطوات من الباب الرّئيسي للمحطة، كان حسن في انتظارنا..

بَعْد أن قـدّمتُهما لبعضهما البعض صعدنا السيارة. واصل المسخوط، مُرافقِي ضحكاته المُجلجلة، وهو يستـرجع ذكرياته في شوارع وفضاءاتِ المدينة..

-إيّـهْ يا العِرفانْ.. زُوّلـُوه، القوسْ اللـّي كانْ يْميّـزُو.. فينْـك يا أيّامْ السّويسي!؟..

سـايَرَ ذكرياته المُنطلقة. بعفـويته المعرُوف بها أهلُ منطقته الشمالية، راح يتحدّث عـند كلّ شارع أو بناية، عـن لحظات له كانتْ هُنا، ذاتَ رباط.. جعلَنا نسمع فقط. تقمّصَ دورَ السّـاردِ لحكاياتِه، والناقلة تقطع بنا المسافات. كانتْ لي، أيضا، ذكرَياتٌ كثيرة في المدينة. لكنْ فضّلتُ أنْ أسترجعَ لحظـاتها الجميلة، البعيدة، صامتاً على إيقاع صوته الحاكي عـن صولاتٍ كانتْ وَجولات..

وصلنا في حدود السّادسة إلا دقائق. ولأنه “بْغى يْديرْ الصّوابْ”، سألني عـن محلّ يمكنُ أن يجدَ فيه حليباً أو عصيراً. أشرتُ عليه بمحلبة قريبة. لفّ يمينا واختفى قبل أن يغادرَ مُرافقنا مقعده. سألني حسن، ضاحكـا، بَعد أن ركـنَ السيارة:

-أين “طار” صديقك؟

-هو في المحلبة القريبة، أراد أن يُحضرَ شيـئا فأشرتُ عليه بـ”ميلانو”..

وقفنا عـند مدخل الحيّ، نترقب خروجَه. تأخّر أكثرَ ممّا يتطلب اقتناءُ كرتـُوشة حليب أو قطعة حلوى. قال حسن، ضاحكاً:

-يبدُو أنه ذهب تاهَ في المغرب عن “ميلانو”.. لا أظنّ أنّ المحلبة تعرف زُحاماً يضطرّه إلى التغيب كلّ هذا الوقت..
سرْنـا خطوات، وتوسّطنا الزّقـاق، حيث نـستطيع أن نرى القادمين من المدْخَلين. جاءَنا، وفقاً لتوقـّع شقيقي، منَ المدخل الآخر. لا بدّ أنْ يُتحفك بإحدى “قصصه” حتى في أقـةلّ الأوقات التي تتوقـّع منه ذلك..

-زيدْ، زيدْ قدّامي، زيدْ.. مْخلّي “ميلانُو” هيرْ حْداكْ وْمشيتِ جْبتِ ليَ دُورة عْلى المْغربْ العَرَبي..

دلفنا إلى المنزل. صعدْنـا أدراجاً. جلسْنا قبالة جهـاز التلفزيون. ولأنه من مُحبي الأخبار، اضطررتُ إلى مُتابعة ما تعرفون من أخبار هذا العالم المجنون..

القاهرة تسقُط، دمشقُ تُذبَح بغدادُ تـُفجَّر، طرابلس تتغوّل، تونُس تـُفخَّخ، والقادمُ أصعَب.. (الأزمة عـامة، بالفعل، ومُستـفحِلة) قلتُ لي. العالـَمُ يصيرُ مُتـزّماً، يصيرُ الأزمة..

شغبُ الصّغار الثلاثة يُخفّفُ وطـأةِ ما نرى ونسمع. رائحة حريرة حـامْضة تتسـرّبُ إلى الأنوْف؛ تُذكّر الأجسادَ الثلاثة أنْ على هذي الأرض -رغمَ كلّ ها المسخ، ما يستحقّ الانتـظار..

..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *