عبد الرزاق بوتمُزّار
اليوم الـ17
الثانية وبعضُ دقائق. أخيرا، انتهى السّباق، سباقٌ طويل ضد السّاعة لإنجاز المطلوب (على واجهات كثيرة) في الوقت المناسب.
الثانية والنصف، “المُسافرون”. طابورٌ طويل، كالمعتاد. أينما ذهبتَ في هذه البلاد السّعيدة وجدتَ طوابيرَ طويلة في الانتظار. أمّا أمام مكاتب التذاكر داخل محطة للمُسافِرين فلا تتوقع إلا صفوفا طويلة وعريضة.. لبثتُ أفكر في ما عساهم يفعلون، هؤلاء الموظفون الأربعة خلف أقفاصهم الزّجاجية، أو بالأحرى لا يفعلون، حتّى تبقى هذه الطوابير بكـُل هذا الامتداد!؟..
الثالثة إلا بعض. دابّة كبيرة تنطلق في اتجاه الجنوب.. في الكراسي الأقرب إلى مدخل الناقلة كان هناك سيّدتان وشخصٌ طويل القامة بكيفية لافتة. إحدى السّيدتين شابة في مقتبل العمر، لفَّتْ جسدها الضئيلَ في “ملحف” صـحراويّ واستسلمتْ لنوم عميق لا يُوقظها منه إلا توقفُ الناقلة العملاقة هنا أو هناك أو جلبة في الأرجاء (خصوصا مكالَمات الشّخص الطويل الجالس قربها، والذي كان صوته حادا ومزعجا). السّيدة الأخرى في منتصف العمر. لفحتْ شمس الجنوب بشرتَها وقرّبتها من دائرة السّواد.. في أول تـوقف للقطار في “الوازيسْ” سـألتني:
-فين وصلنا دابا أولدي؟
-الوازيسْ.. ما زال هيرْ في الـدّار البيضاء.. فين ناوْية تنزلي؟
-في سيدي عبد الله.. كنتُ في زيارة لوالدتي في المُستشفى وعليّ أن..
-ما زال أمامنا الكثير كي نصل إلى سيدي عبد الله. هذه المنطقة في نواحي بنگرير، أليس كذلك؟
-بالفعل، سيدي عبد الله، ثم بنگرير.
كان كتابُ راجع في مكانه من محفظتي. أخرجته. لو تركتُ للسيدة مجالا لإتمام جملتها الأولى عن المستشفى ولست أدري ماذا ما كنّا انتهينا أبدا. الشّخص الطويل شرع، مجددا، في إجراء واحدة من مكالماته التي لا تنتهي، بأشخـاص كثيرين. استقبل أيضا مكالمات كثيرة ورسائلَ قصيرة.
قرأتُ:
دخلتُ عليكَ “بعاطي العَـزارا”
تَـقدَّمْ دمـاً وانفجاراً
دخـلتُ عليكَ بـ”بُـويا عُمـَـرْ” دعِ القـيظ لي والتـحقْ بالمطـرْ
-تـجـيء الفـَرَاشـاتُ من جهــة النـّار؟
-لا. نـادراً مـا تجـيءْ
ولكنـّهـا كلّما أقبلـتْ حـلّ شـيءٌ من الثـّلج فـوق اليديْن
ولـمّ الكـلامُ حقـائبَه للسّفَـرْ
فـلا تبعـث القـولَ إلا سـلاماً
ولا تـكتُب النـص إلا حـريقـاًَ
ولا تـرسـم الخـطـو إلاّ عـلى هدْيِْ هـذا الحجَـرْ..
(……….)
(……….)
(……….)
كانت مكالماتُ العملاقِ الجالس أمامي، قـرب الفتاة ذات اللباس الصّحراوي، تـُسبّب الكثيرَ من الإزعاج، لي ولجارته النائمة وللباقي في الكراسي المجاورة، لكنه واصلَ، كما لو ليُغيظَنا فقط..
داعبتْ أجفاني تباشيرُ النّوم. قلتُ لنفسي سـأواصل القراءة على الأقلّ إلى أن يُنهيّ هذا “المُديرْ” حديثه (غيرَ المهم لأحد غيره). لكنه لا يدري. واصل إزعاجَ الجميع.. سـألتْني السيدة بقربي:
-يبدو أننا قد اقتربنا؟
-لا، ما زال المكانُ بعيداً. حين يقترب القطار من وجهتك سـأنبّهُكِ..
لم تنتظرْ حتى إنهائي جملتي. قامتْ مـن مجلسهـا واتّجهتْ صـوب أحد الأبواب. غريبٌ أمرُ بعض الناس. عدتُ إلى الكتاب بين يديّ، والنوم يقترب ويقترب، خصوصا وقد أنهى ذاك “المُدير” مُكالماته أخيرا..
لم تتوقفِ الدابّة الحديدية كي تنزل تلك السّيدة إلا بعد أكثر من نص سـاعة! أزيدُ مـن نصـف ساعـةٍ وهي تـتربّص بتوقـف تظنّه وشيكا لكنه لم يكن كذلك. ثمّ، لم أعد أشعـر بشيء ممّا حولي…
السادسة وبعضُ دقائق. تتوقف الناقلة في آخر محطاتها، مراكش. الصّوت الآليّ يُذكّر المسافرين ممّـن سيواصلون رحلتـَهم نحو العيون وما جاورها بأنّ هناك حافلة في انتـظارهم في المحطّة المُجاورة.
آلافُ الأجساد تغادر جوف العربات. أتحامل عـلى جسدي وأقوم مِـن مجلسي وقد اشتد عـليّ النعاس. أنحشر وسط الأجساد وأغادر المحطة، باحثا عن تاكسي تُقلّني إلى حيث عصافيرُ تتحرّق شوقا للّقاء منذ أسبوع وأتحرّق.
