عبد الرزاق بوتمُزّار

 

اليوم الـ16

التاسعة صباحا، الكرة الأرضية، ممرّ الرّاجلين. ثمة شيء استوقفني للتأمّل.. كنتُ قـد لاحظتُ وجودَ رجال أمن بزيّ رسميّ. عناصرُ كثيرة على امتداد الشّوارع. جنبَ الطّرقات سياجاتٌ حديدية كثيرة نـُصبتْ وأخرى في الانتظار. ثمّة شاحنة نظافة كبيرة ترُشّ السّاحة الكبيرة المُقابلة لفندق ريجنسي الفخم. عبرتُ الممرّ. رذاذ المياه المُتطايرة من أنبوبِ الشّاحنة الضّخم يصل بارداً إلى جسدي، مُنعـشاً. الفضاء نقيّ والمدينـة تبدو “بيضـاءَ” فعلاً.. ثمّة زيارة ملكية في أجندة المدينة.. قلتُ لي، وأنا أعبُر ممرّ الترام الأنيقَ. (آه، مُدنَنا غيرَ الأنيقة متى تتأنّقين كـُلّ يوم بدون مناسبة!؟)..

التاسعة و17 دقيقة. جهازٌ يُشغَّل، وهات ما في ساكوش اليوم. القراءة في رمضانَ خيرُ رفيق. ماذا عساني كنتُ أفعل فـي يـوم صائمٍ غيرَ هذه الحِرْفة -الهواية؟.. وحين تستمتع وأنتَ تقـرأ، فتلك حكاية أخرى (لا يفهم سرَّها إلا ممسُـوسٌ بعشقِ الحرْف، غـاوٍ شعابَ الأبجَد)..

الرّابعة إلا بعض دقائق. جهازٌ يُطفـَأ، مقعـد يُهجَر. ما بقيّ في القسم إلا “مسخُوطـَا صحافة”. أترُكهما لِما هُما فيه، متمنيا لهُما قراءة مُمتعة. أغادر البناية. أندسّ بين الأجساد، نـُزولاً صوب “الكـُرة الأرضية”. المكان لا يـزال نظيفاً. السّاحة ممتلئة عـن آخرها. علَمُ السّينغال يُرفرفُ في الأجواء، إلى جنب المغربيّ. ماكي سال يحُلّ ضيفـاً على المملكة..

بعد الغفوة المعتادة (في التفاصيل، قرأتُ قليلاً، ثمّ نمتُ حتّى السّادسة).. جهازٌ يُشغَّل. مفتاحٌ صغير يُربط بالآلةِ الثّقيلة، ملفّ للنقلِ إلى السطح. وهاتِ ما في السّاكـُوش مِن مقـروء.. لكنْ، لمْ يكنْ لي كبيرُ رغبة في القراءة. تبيّنَ لي ذلك من السطور الأولى؛ ربّما قرأتُ اليوم ما يكفي. غيّـرتُ ملابسي. نزلتُ الأدراج. الدّرب ضّاج أصواتاً وحركة. واصلتُ في اتّجاه السّـويقة، القريبة.

لمْ تكن لي، أيضاً، رغبة في التربّص بقصص الخضّارين وبائعي السّمك في الأسواق الخلفيّة. راوغتُ كـُلّ تجمّع يبدو منه أنّ في دائرته ديكَيْن يتشاجَرانِ بكلماتٍ غيرِ مُستحَبّةٍ والوقتُ صيام. يحْدُث لي مرارا أن أنقطع عـن عالمِ الآن حين أقرأ سطوراً تنقلُني إلى عوالم المُبدعين، هـؤلاء الجميلين الـّذين صنعُوا لنا صوراً أخرى تداعب الفكر في أزمنة “صور مـن نوع آخَر..

فهمتُ، وأنا أسترجعُ كلمات الرّاحل عبد الله راجعَ، أنّ صورَه هي سبب المسّ الـّذي أصابني، هذا المسـاءَ، وجعلنِي أنفُرُ عوالِمَ الآن.. تناولتُ الكتاب. عُدتُ إلى زمَن سابق (أم تراه قادم؟)..

*مثلـّثٌ خارجَ العـادة..
1- لـُورْكـا
بعـد أن سقـط الشّارعُ ارتطمتْ نبضةٌ بالحجَـرْ
نفضتْ ريشتَها لحظـةً
ثمّ فـرّتْ إلى دمه عائمَهْ
فتـّشوا جيبَه، وجدُوا صورة امرأة حالمَـه
دفتراً لقصائدَ لـمْ تكتملْ
وبلاداً تـُسافرُ نحو المَطـرْ
آهٍ من نبضة ربطـتْ قلبَهـا بالحَجَرْ..

2- أوفيلـيَـا
سيفتح في عتبة العشّ مُتـّسعاً للحَنين
يسيلُ الكلامُ المـؤجّّل بضعَ ثـوانٍ على العتبَهْ
تـُنيمُ على صدره رأسَها قبل أن تُسلمَ الشّفتين..
يداها سياجٌ على الرّقبه
فيجمع في لحظة بين دفءِ الشّفاه ورائحة الياسَمين
وينشطر الجسم. ثلـُثٌ يُغادرُ العِمارة في قفزَتَيْن
وثلثان في ورقٍ يتمدّد في المكتبَهْ..

3- حنظلَة
أمسِ فكّ اشتباكَ يدَيهِ على الظهْـر
كان يُمـارسُ رميَ الحجـَرْ
أمسِ لـَم تنتدبْ غيرَهُ المـَرْحلَه..
هكذا. بَعْـد أن تخلطـَ النّار بين الطـّيورِ والشّجَرْ
يسقُط اللـّحمُ مُحتمياً بتراب الوطن
ثمّ لا شيءَ يبقى سوى… حنـْظَله
رافِعاً حجَرَ الرّفض حتّى انسحابِ الغُزاة..

4- سُـقـُوط
تريّثْ قليلاً. سيأتيكَ من ها القصيدِ عتابٌ
فلا تنزعجْ. قُلْ سحابٌ ويَعبُر
بَعْد غـد ينسُخ القلبُ ما كَتبا
وليتـَك يا صاحبي إذ رمانِي عليكَ السّحابُ
أقمتَ معي قبل أن تسحبَ الخطو
كان لِهذي البلادِ التي تُتقنُ اليُتمَ بعضُ الأهالي
وكُنّا بها عرباَ
ولكنّكَ الآن تبعثُ نبضكَ طيَّ البريد..
وَطَيَّ البريدِ يجيءُ الجوابُ
فلا دفءُ هـذا الجنُوبِ اشتراكَ
ولا أنتَ تملكُ ثلجَ الشّمال إذا انسكَبَا!..

(*الأعمـال الشعرية لعبد الله راجـع ص. 400 -401)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *