ولأن التفاهة ما تزال عصية على الضبط، حتى لا أقول إنها استقوت بمن يسمون أنفسهم “صناع المحتوى”، فقد أصبحت بفضل هؤلاء “الصناع” الغارقون في الجهل والأمية، ثقافة في حد ذاتها.
حسن عين الحياة
قبل أيام، فوجئت بهاتفي وقد أثقلته أخبار تتحدث عن محاكمة شخص ظل منذ سنوات يروج للتفاهة في وسائل التواصل الاجتماعي.. عشرات الفيديوهات التي تتوسل “الضغط على الزر” هطلت دفعة واحدة، وهي تحلل وتؤيد وتندد وتنتقد وتكشف، حتى قبل أن تقول المحكمة كلمتها.
وما استغربت له أكثر، هو حجم المتابعة و”البارطاج” والتعليقات على هذه الفيديوهات، وكأن الأمر يتعلق بـ”زعيم” له أتباع وإيديولوجيا. فجأة أصبح حديث الساعة والشارع وحتى غرف النوم، بل ويناقش و”العياذ بالله” حتى في بعض البلاطوهات. وبقدر ما تمنيت له “العفو”، تمنيت أيضا أن يسن المشرع في بلادنا قانونا يجرم صناعة المحتوى التافه، بالنظر إلى خطورته على الناشئة التي في غياب الرقابة، تصدق كل شيء، وقد تقتدي بمن يعتقد أنه “كل شيء”.
ولأن التفاهة ما تزال عصية على الضبط، حتى لا أقول إنها استقوت بمن يسمون أنفسهم “صناع المحتوى”، فقد أصبحت بفضل هؤلاء “الصناع” الغارقون في الجهل والأمية، ثقافة في حد ذاتها، مادام هناك من يروجها باسم حرية التعبير، والحق في الإخبار، وإن كانوا لا يفرقون أحيانا بين حرية التعبير التي يكفلها القانون، وبين التشهير ونشر الأخبار الزائفة والمضللة التي يجرمها القانون نفسه.
إنني هنا لا اتحدث عن صناع المحتوى الهادف.. فهؤلاء لا يحشرون أنفسهم في أعراض الناس وفي حياتهم الخاصة، ولا يتحدثون عن جهل، ولا يعزفون على الأوتار التي تحرك الغرائز، فهذه الفئة، وهي قليلة جدا، لها مواضيعها التي تنهل مصداقيتها من رصيدهم الثقافي والمعرفي وحتى الأكاديمي. فقط، أتحدث هنا عن الذين حولوا التفاهة إلى سلطة للتأثير على عقول الناس، وفي الوقت نفسه جعلوا منها بضاعة للربح السريع. فقد تجدهم يتحدثون عن جهل في كل شيء، في الدين وفي السياسة وفي القانون وفي العلاقات الدولية وعلم النفس والاحتباس الحراري، بل ولديهم علم حتى بما جرى بين فصائل المقاومة في الدقائق الأخيرة من سقوط نظام الأسد، ذلك أنهم على استعداد دائم للركوب على الطارئ من الأحداث، فقط، يضعون الهواتف أمامهم “وأجي يا فم وكَول”.. والمؤسف أن هناك من يقتني هذه البضاعة من ماله ووقته أيضا، بل ويصدقها ويشاركها مع الأصدقاء والأقارب.
في عصر التفاهة، أصبح كثيرون يهتمون حتى بجوارب قطط المشاهير، وبنوع “طلاء الشفاء” الذي يلائم الشفاه المنفوخة بـ”البوطوكس”.. بعضهم يقضون ساعات طويلة أمام هواتفهم، وهم ينتظرون من “فلانة” التي تعرضت للقصف من “فلانة” الأخرى ما يسمونه بـ”الكلاش”، وآخرون يتركون كل شيء من أجل حساب عدد “اللايكات” وقراءة التعاليق المذيلة تحت فيديو يتحدث عن فوائد “الحبة السوداء”، في وقت يجمع صاحب الفيديو من هذه “اللايكات” والتعاليق “حبة نيت”.
تصوروا أن هناك من يدمن “اللايفات” التي يتحدث أصحابها عن تجاربهم الشخصية الفاشلة في الحب والزواج والخيانة، ويعتقدون بأنها دروسا مهمة في الحياة.. وآخرون يتابعون بنهم “المباشر” حيث يوهم “فقيه” متابعيه بأنه بصدد إخراج الجن من جسد امرأة مكومة، والأخطر من ذلك، يقدم وصفات للاستهلاك لمن يشعر بأن “معاه الزايد”.
إنني مثلكم تماما، أتساءل، من أين تأتي كل هذه التفاهة؟ ومن هذا الذي يقذف بها في وجهنا كلما فتحنا الشاشات؟ وكيف بمقدوره أن يحاصرنا بها، وأن يجبرنا على الإنفاق عليها واستهلاكها بشراهة المدمنين على الممنوع؟ وهل وراء هذا الكم الهائل من التفاهة التي تطوقنا، فرد أو جماعة، أو ربما منظومة لها رأس وبطن وأذرع ترقب وتُحرِّك وتؤثر أيضا؟ فكيفما كان هذا المؤثر، كائنا أو كيانا، فإن هذه البضاعة المسمومة التي يروجها بيننا أضحت واقعا حيا، وخطورتها تكمن في تكيفيها مع المجتمعات، وأيضا في انتقالها من الفضاءات الافتراضية إلى الواقع.
التفاهة موضة العصر، أو لعلها آفته، وهي الآن تكبر بنا.. تنمو على حساب الأشياء الجميلة التي توارثناها من جيل إلى آخر، وتتقوى أكثر كلما أكلت، ونحن ننظر، من قيمنا الإنسانية، وفي الوقت نفسه، نتآكل ببطء شديد حين “تستبلد” فينا العقل والذكاء. والذكاء كما تعلمون هو الإنسان.
التفاهة الآن، تحررت من بيئتها الحاضنة بمواقع التواصل الاجتماعي، لتتسلل إلى فضاءات كنا نعتقد أنها آمنة، فقد نشاهدها في التلفزيون، وحتى في المدرسة، خاصة حين تلتهم التفاهة براءة تلميذة أو تلميذ في التعليم الأولي، فقط لأنهما عبرا عن رأيهما بعفوية. الحاصول “الله يلطف بنا وخلاص”.
المنعطف: 12/12/2024
