من لا يعرف محمد وهبي مدرب المنتخب الوطني المتوج بكأس العالم.. من طفولته في بلدية سكاربيك في العاصمة البلجيكية بروكسيل، إلى فتوحاته العظيمة في الشيلي.. بروفايل شامل للرجل.
لم يكن انفجار العبقرية المغربية في ملعب “خوليو مارتينيز برادانوس” بالعاصمة الشيلية سانتياغو، صباح الاثنين الماضي، انفجارا عاديا، خاصة وأن دويَّه القوي زعزع الأركان المتينة لكرة القدم اللاتينية، وأطاح بقطبيها التقليديين، البرازيل في دور المجموعات، والأرجنتين في النهائي.
ولم يكن فجر تشيلي أيضا يوما عاديا في تاريخ كرة القدم المغربية، ولا في ذاكرة العرب أجمعين.
ففي ليلة ستُروى تفاصيلها طويلا للأجيال، رفع أشبال الأطلس كأس العالم لأقل من 20 سنة بعد فوز تاريخي على منتخب الأرجنتين، حامل الألقاب ومشتل صناعة الأساطير، في مشهد تجاوزت صُوَره الأيقونية حدود المستطيل الأخضر إلى فضاء الأمة بأكملها.
من طنجة إلى الكويرة، ومن الدار البيضاء إلى بركان، انفجرت الشوارع المغربية فرحا وصخبا جميلا في ليلة بيضاء لا تُنسى، وامتد صدى الهتافات إلى باريس ومدريد والقاهرة والدوحة ونواكشوط ودكار وبرازيليا ومونتريال… حيث احتفل المغاربة، أينما وجدوا، بهذا الإنجاز غير المسبوق لكرة القدم المغربية والعربية أيضا.
ولأن هذه الليلة كانت مفعمة بالأهازيج والهتاف والدموع والرايات، فقد كتبت بداية زمن كروي جديد، وصنعت من اسم محمد وهبي أيقونة وطنية وإفريقية وعربية، بعد أن قاد أبناءه إلى الذهب العالمي بإيمان لا يتزعزع، وهدوء كان ينذر عند كل مباراة بالعاصفة.
لقد فعل وهبي المستحيل.
كان ذكيا للغاية، وداهية يقرأ انتصاره في تردد الخصم وتهوّره أيضا.
وفي كل مباراة، من دور المجموعات إلى الثمن والربع والنصف ثم النهائي، كان وهبي يحاول أن يُثبت للعالم أن فلسفته في التدريب تنطلق من سؤالٍ وجودي يقول: “نحن المغاربة، لا شيء عندنا مستحيل… فلنفعلها إذن”.. هكذا، وبعقل حاد ورؤية بعيدة المدى، كرَّس مقولة “المستحيل ليس مغربيا” وجعلها حقيقة واقعية.
منذ انطلاق المونديال، لم يكن طريق وهبي مفروشا بالورود. فقبل البطولة بأسابيع، وجد نفسه أمام غيابات مؤثرة بعد رفض عدد من اللاعبين المشاركة مع المنتخب الوطني، إما لإكراهات أنديتهم الأوروبية، أو لتفضيلهم مسارهم الاحترافي على حلم الوطن.
ومع ذلك، لم يرفع الرجل الراية البيضاء.
جمع من تبقّى من المؤمنين والحالمين، أولئك الذين اختاروا القميص الوطني قبل الأندية، وصنع منهم فريقا من مقاتلين آمنوا بالحلم كما آمن هو بهم.. فريقا لا يهاب الأسماء الكبرى، ولا الشعارات البراقة، ولا الأرقام والإحصائيات التي تثقل ميزان المنافسين.
ومن مباراةٍ إلى أخرى، بدأت المعجزة تتشكل، وبدأت أسهم وهبي في الصعود.
أسقط المغرب إسبانيا في دور المجموعات، ثم أطاح بالبرازيل، وعبَر كوريا الجنوبية والولايات المتحدة، قبل أن يهزم فرنسا في نصف النهائي، ليواجه الأرجنتين في النهائي الملحمي الذي حبس أنفاس العالم.
وحين دوت صافرة الحكم الإيطالي ماوريسيو مارياني معلنة نهاية اللقاء بفوز المغرب، بدا التاريخ كما لو أنه يصفق واقفا.
ولأنه صامت وخجول بملامح صارمة، ابتسم وهبي أخيرا أمام أعين الملايين.
عانق لاعبيه واحدا واحدا، في مشهد يختزل سنوات من العمل والتكوين والصبر، لمدرب بدأ مساره معلما للأطفال في إحدى المدارس التربوية ببلجيكا، وانتهى بصناعة جيل من الأبطال تحت راية المغرب.
وإذا كان وهبي قد آمن بحلمه حتى الرمق الأخير من المونديال، فإن من آمن به أكثر هو فوزي لقجع، رئيس الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم، الذي جدد فيه الثقة بعد خسارته نهائي كأس إفريقيا لأقل من 20 سنة بمصر.
وقتها، لم يلتفت لقجع إلى أصوات المشوشين والمشككين، بل منح الرجل فرصة جديدة، مؤمنا بأن المشاريع الحقيقية تحتاج إلى الصبر، لا إلى الضجيج.
وقد كان رهانه صائبا، فها هو وهبي يرفع اليوم كأس العالم، مثبتا أن الثقة في الكفاءة الوطنية نابعة من رؤيةٍ بعيدة المدى.
فبهذا الإنجاز التاريخي، انضم محمد وهبي إلى كوكبة الأطر المغربية التي شرّفت الراية الوطنية، من بادو الزاكي الذي صنع ملحمة تونس 2004، إلى وليد الركراكي الذي أبهر العالم في مونديال قطر، ونبيل باها الذي أضاء سماء إفريقيا مع منتخب أقل من 17 سنة، وطارق السكتيوي في أولمبياد باريس وملحمة “الشأن”، وقبله عموتة والسلامي وفتحي جمال… لكن وهبي ذهب أبعد منهم جميعا، إذ حول حلم “العالمية»” إلى واقعٍ ملموس، بصعوده إلى قمة العالم، ليعلن أن الكرة المغربية دخلت فعلا عصرها الذهبي الجديد.
وُلد محمد وهبي يوم 7 شتنبر 1976 في قلب العاصمة البلجيكية بروكسيل، وتحديدا في بلدية “سكاربيك” التي ظلت محفورة في ذاكرته.. بلديةٌ عرفت خطواته الأولى واحتضنت صباه وفتوته، فدرس في مدارسها، ولعب في أزقتها، وتشرب من هوائها روح الانتماء.
ولشدة وفائه لـ”سكاربيك” التي شكلت وجدانه الأول، تروي بعض الصحف البلجيكية أنه عاد إليها بعد سنواتٍ طويلة ليشتري المنزل العائلي الذي نشأ فيه، كمن يشتري قطعة من ذاكرة لا يريد لها أن تضيع في رفوف النسيان.
بدأ وهبي مساره المهني معلما للأطفال في إحدى المدارس التربوية، إذ كان يرى في التعليم رسالة سامية تُغذي العقول وتنحت القيم، غير أن شغفه العميق بكرة القدم ظل يهمس له بأن في الملاعب درسا آخر لا يقل نبلا.
ومن هنا جاءت دراسته للتربية، طامحا إلى أن يجمع بين مهنته التي تُربي العقول، وشغفه الكروي الذي تُرفرف له الأرواح.
هذا الشغف، أو بالأحرى شرارة عشقه الأولى لكرة القدم، اندلعت عام 1986، حين تابع كأس العالم المنظم بالمكسيك رفقة أسرته وهو ابن عشر سنوات.
كانت العائلة تشجع المنتخب البلجيكي في مبارياته ضد المكسيك وباراغواي والعراق، لكن شيئا في البيت كان يتبدل كلما لعب “أسود الأطلس”.. فقد كانت القلوب تخفق للمغرب ضد إنجلترا وبولندا والبرتغال، والفرحة تشتعل أكثر بوصوله إلى دور الـ16، في إنجازٍ عربي وإفريقي غير مسبوق.
هناك، بين حماسة العائلة ودموع الفخر، اكتشف الفتى ارتباطه العميق ببلد الأجداد، المغرب، الذي ظل منذ ذلك الحين وطنا يسكنه أينما حل وارتحل.
بعد تجارب متفرقة في مدارس وصفها وهبي نفسه بـ”الصعبة”، طرق بابه لأول مرة نادٍ كروي صغير في بروكسيل هو “ماكابي بروكسيل”، فكانت تلك الفرصة الخطوة التي غيرت مسار حياته.
هناك، اكتشف موهبته كمدرب، والأهم كإنسان.
وفي بوحه لإحدى الصحف البلجيكية، يروي وهبي عن تلك التجربة قائلا: “العمل مع الشباب، وإعداد حصص التدريب، أفادني كثيرا.
لقد سمح لي بأن أكون أكثر كفاءة في المدرسة وفي تدريباتي العملية”.
في تلك الفترة تحديدا، كان وهبي خجولا، خاصة إذا وجد نفسه أمام مجموعة: “أتذكر عندما كنت أُدرّس في البداية، كنت بالكاد أجرؤ على فتح فمي. (ماكابي) ساعدني حقا على إثبات ذاتي.
فعندما وصلت إلى هذا النادي، كانت لدي خبرة قليلة جدا… وهناك اكتشفت مهنة التدريب”.
قضى وهبي في “ماكابي” ست سنوات، لكن طموحه كان أكبر.
ففي عام 2003، التحق بالجهاز الفني لنادي أندرلخت العريق، مدربا لفئات الشباب، وهناك التقى بصديقه “يانيك فيريرا” الذي جمعته به تجربة سابقة في “ماكابي”.
وبين جدران هذا النادي الذي يُعدّ من أرقى الأندية البلجيكية، وجد وهبي فضاء رحبا لتفجير طاقاته.
بدأ محمد أو “مو” كما يلقبه عشاق أندرلخت، مشواره مع فئة تحت 9 سنوات (مواليد 1996).. جيل واعد ضم أسماء مثل “موسوندا” الذي أصبح لاحقا نجما لتشيلسي، و”عدنان يانوزاي” النجم السابق لمانشستر يونايتد والمنتخب البلجيكي، قبل أن يرافقهم معية عدد من النجوم عبر المراحل حتى فئة U14، ثم U17، وصولا إلى الفريق الرديف U21، حيث بدأ اسم وهبي يلمع كأحد أبرز العقول الشابة في كرة القدم البلجيكية.
ويرى عديد من المتتبعين أن بصمات وهبي التدريبية في أندرلخت لم تكن سوى تجارب ثرية نحتت له مكانة كبرى في الأوساط الكروية البلجيكية.
لقد كان مهندسا كرويا يتقن فن الموازنة الصعبة، حيث يدمج الانضباط الصارم بالتشجيع الفعال على الإبداع، وهي فلسفة قيادية نادرة في ملاعب الفئات الشابة.
في عام 2012، كانت محطته التالية في نادي أندرلخت نفسه، حيث تدرّج ببراعة ليستلم قيادة الفريق الاحتياطي، ثم ارتقى ليصبح مساعدا للمدرب الألباني “بيسنيك هاسي” في الفريق الأول.
لكن اللحظة التي عززت صورته كخبير في صقل المواهب تجلت في موسم 2014-2015، عندما قاد فريق تحت 21 سنة (U21) إلى إنجاز تاريخي ببلوغ نصف نهائي دوري الشباب الأوروبي.
هناك، تأكدت قدرته على المنافسة بقوة ضمن نخبة أوروبا.
بعد ذلك، خاض وهبي تجربة احترافية قصيرة ومفيدة في الدوري السعودي، كمساعد لصديقه القديم “يانيك فيريرا” في نادي الفتح، قبل أن ينهي هذا الفصل في يناير 2022.
مباشرة بعد ذلك، كان تألق وهبي وخبرته المتراكمة قد لفتا أنظار الإدارة التقنية الوطنية المغربية، فبناء على كفاءته العالية ورؤيته الواضحة لتطوير الفئات الشبابية، تم تعيينه مدربا للمنتخب المغربي لأقل من 20 سنة، خلفا لعبد الله الإدريسي، حاملا معه مشروعا وطنيا طموحا للارتقاء بمستوى كرة القدم في هذه الفئة.
ومنذ تولّيه هذه المسؤولية، بدأ وهبي في تنفيذ مشروعه القائم على المزج الاستراتيجي بين الموهبة الفطرية والانضباط الذهني والثقة بالنفس، فحصدت جهوده ثمارها سريعا بالتتويج ببطولة شمال إفريقيا، تلاه التأهل المستحق إلى نهائيات كأس إفريقيا للأمم.
لتصل مسيرته إلى ذروة إنجازاته التاريخية في بطولة كأس العالم للشباب (U20) في تشيلي، حيث قاد الأشبال إلى إحراز كأس العالم، مثبتا أنه صانع المستقبل الكروي الوطني.
* حسن عين الحياة لفائدة «المنعطف»
