تتجه وزارة الداخلية نحو تشديد التشريعات القانونية لمحاصرة الترحال السياسي، والحد من نطاق توسعه، وذلك في إطار رؤية تتغيا الوصول إلى أقصى مراتب تخليق الحياة السياسية والعملية الانتخابية.
رغم تراجع حجم الترحال السياسي خلال ما يقرب من عقدين، بفضل مختلف التدابير والإجراءات المتخذة، ومنها اعتماد قوانين صارمة تُشدد في منع الترحال السياسي، إلا أن الظاهرة ما تزال تقاوم الإجراءات “الردعية”، وتتجه الداخلية إلى فرض المزيد من القيود في التشريعات الانتخابية الجديدة لتطويق الظاهرة والحيلولة دون “انتعاشها” مع اقتراب الاستحقاقات الانتخابية لسنة 2026 .
بدأت حملة الاستقطابات في وقت مبكر من طرف العديد من الأحزاب التي تعمل على تعزيز تموقعها الانتخابي من خلال استمالة الأعيان وذوي النفوذ والمال لضمان كسب الأصوات الانتخابية، وهو ما يعتبر عاملا محفزا على استمرار الترحال السياسي. بمعنى أن الأحزاب تلعب دورا أساسيا في استمرار الظاهرة. بل إن قيادات عدد من الأحزاب تترصد “الغاضبين” في أحزاب أخرى لاستقطابهم، خاصة إذا كانوا ورقة انتخابية ناجحة ومضمونة.
الصراع على أشده خاصة مع حكومة المونديال التي تسعى غالبية الأحزاب الكبرى إلى التنافس من أجل أن تكون طرفا فيها. إغراءات ووعود بمناصب ومزايا نفعية أخرى تلعب دور المنشط للترحال السياسي التي تعتبر ظاهرة غير صحية ، لكن ما يهم الأحزاب، أولا وآخيرا، هي المقاعد النيابية. وهذه مفارقة تسجل ضد الأحزاب التي ظلت في فترات سابقة طويلة تشتكي من الترحال، ضمنها أحزاب تسبب الترحال في إضعاف وزنها داخل البرلمان.
هذه الظاهرة ليست بالجديدة على النسق السياسي المغربي، فقد عرفت تسعينيات القرن الماضي دينامية ملفتة للترحال السياسي الذي تغذى أساسا من البلقنة الحزبية التي طبعت المشهد السياسي الوطني آنذاك، قبل أن يتعزز الترحال بعد تأسيس حزب الأصالة والمعاصرة الذي عرف موجات التحاق متتالية من طرف فاعلين سياسيين من مختلف المشارب السياسية.
ولم ينفع اعتماد نظام الاقتراع باللائحة في الحد من الظاهرة، بحكم أن ذهينة التصويت على الأشخاص ما تزال هي المهيمنة على السلوك الانتخابي بالمغرب.
إن عدم احترام القناعات والقيم السياسية والمبادئ عوامل تغذي الظاهرة، فالحزب ليست قناعة ولا مبادئ أو قيم، بل ليست حتى إيديولوجية بقدر ما هي آلية للحصول على تزكية انتخابية وتحقيق مصلحى فردية، وهو ما يفسر لجوء عدد من الأشخاص إلى شراء التزكيات بأي ثمن إذا كانت ستوصلهم إلى البرلمان.
الظاهرة برزت بقوة في انتخابات 2002 و2007 و2011، حيث لم يكن هناك مانع قانوني يردع البرلماني أو المنتخب من تغيير انتمائه السياسي.
ولكن حصل التحول مع إقرار دستور 2011، الذي قلب المعادلة، وسن أحكاما رادعة ضد الترحال، إذ ينص في فصله 61، على أن كل من غير انتماءه السياسي الحزبي الذي ترشح باسمه يجرد من عضويته بأحد المجلسين.
وينص الفصل 61 من الدستور على أنه “يجرد من صفة عضو في أحد المجلسين، كل من تخلى عن انتمائه السياسي الذي ترشح باسمه للانتخابات، أو عن الفريق أو المجموعة البرلمانية التي ينتمي إليها.
وتصرح المحكمة الدستورية بشغور المقعد، بناء على إحالة من رئيس المجلس الذي يعنيه الأمر، وذلك وفق أحكام النظام الداخلي للمجلس المعني، الذي يحدد أيضا آجال ومسطرة الإحالة على المحكمة الدستورية”.
شكل دستور 2011، منعطفا في المشهد الحزبي، من خلال مساهمته القوية في الحد من الظاهرة، ومن البلقنة على حد سواء، خاصة مع اعتماد قوانين انتخابية صارمة، واعتماد قانون جديد للأحزاب يضع قيودا على تأسيس الدكاكين الحزبية، وذلك في سياق إرادة الدولة في عقلنة المشهد الحزبي والسياسي، والقطع مع تفريخ الأحزاب التي تأسست العديد منها بمناسبة اقتراب محطات انتخابية.
لقد منح المشرع المغربي، من خلال القوانين الانتخابية الجديدة رؤساء الأحزاب الحق في تقديم طلبات تجريد منتخبيهم الذين غيروا انتماءهم إلى أحزاب أخرى من مهامهم الانتخابية. ويضطر النائب البرلماني إلى البقاء في الحزب حتى نهاية الولاية قبل أن يبادر إلى تغيير لونه السياسي، بحسب ما تقتصيه مصلحته الانتخابية.
فالكثير من البرلمانيين ينتقلون من حزب معارض إلى حزب تتوفر فيه شروط المشاركة أو قيادة الحكومة.ثمة قاعدة لدى بعض البرلمانيين تتمثل في الرغبة في التموقع في حزب في الأغلبية الحكومية، لأن المسألة أولا وأخيرا ليست مسألة مبدأ بل مصالح ذاتية بالدرجة الأولى وهو ما يسيء إلى المؤسسة الحزبية و الممارسة السياسية برمتها.
نحن إذن أمام ظاهرة انتهازية بامتياز ، تمارس فيها السياسة بناء على مصالح شخصية وليست مصلحة المؤسسة الحزبية أوحتى مصلحة الواقع السياسي للبلاد. والمحصلة هي أن الترحال السياسي، الذي كان يعرف “نشاطا” متواصلا طيلة الولاية التشريعية، بسبب غياب قوانين تمنعه، كان يثير مشاكل وإشكاليات عديدة للأحزاب، بسبب تغيرات على مستوى التركيبة العددية للأحزاب في البرلمان ، وعدم استقرار عدد المقاعد النيابية.
اليوم، مع ظهور التشريعات الجديدة، أصبحنا أمام واقع جديد، حيث يعرف الترحال ركودا شبه تام خلال الولاية التشريعية، لكنه ينتعش بعد انتهاء الولاية التشريعية مباشرة واقتراب موعد الانتخابات.
في خضم كل ذلك، وفي إطار الصرامة التي تبديها الداخلية وعزمها على مواصلة تكريس جهود تخليق العملية الانتخابية، فإن الوزارة تتجه نحو تشديد التشريعات القانونية لمحاصرة الترحال السياسي، والحد من نطاق توسعه، وذلك في إطار رؤية تتغيا الوصول إلى أقصى مراتب تخليق الحياة السياسية والعملية الانتخابية.
