الساحة الثقافية والأكاديمية تفقد واحدا من رجالاتها الكبار

ترك العلامة والمؤرخ الراحل محمد السعيدي الرجراجي، إرثا فكريا وثقافيا وأدبيا كبيرا، إذ كان الفقيد مرجعا علميا للمجتمع الرجراجي، حيث جمع بين الإلمام بالدراسات العربية والصحافة العامة، من خلال حصوله على دبلوم الصحافة العامة من القاهرة، وتأدية أدوار إدارية وتربوية مهمة في وزارة التربية الوطنية.

لم يكن اهتمامه محصورا بالعلوم النظرية، بل امتد إلى توثيق التراث المحلي، والحفاظ على تاريخ الطائفة الرجراجية، وإبراز دورها الثقافي والديني في المنطقة.

العلامة والأديب الذي ودعَنا في صمت، عن عمر ناهز 86 عاما، يعتبره الكثيرون أحد الأعمدة المرجعية العلمية والأدبية في بلادنا.

فبقدر ما كان رحمه الله غزير العطاء والإنتاج، كان ما ينتجه يتميز أيضا بالعمق المنهجي، إذ جمع بين التخصص الدقيق والشمولية الموسوعية.

وبرحيله مساء الأربعاء 8 أكتوبر الجاري، تكون الساحة الثقافية والأكاديمية قد فقدت واحدا من رجالاتها الكبار الذين جمعوا بين دقة المؤرخ، وذوق الأديب، وورع الفقيه، وصفاء المتصوف.

ولملامسة الأثر اللغوي للراحل، يكفي قراءة نزر يسير من كتابه الصادر سنة 2019 بعنوان “صراخ الذاكرة”، الذي يقدم من خلاله “لمحات من سيرة ذاتية”، أو على الأقل قراءة مقدمته البديعة التي يقول فيها: “إن صراخ الذاكرة ليس سيرةَ حياة، ولا تاريخَ إنسان، ولا تسجيلَ فترة، ولا معاينةَ ظرف، ولا مساهمة في تثبيت الذاكرة التاريخية لوطننا، ولا بلورةَ مواقف، ولا فخرا بأعمال جيل، ولا إشادة بصبره وكفاحه وعذابه… ولكنها كلُّ ذلك بما تتضمنه كلمة (كل) من ألم وتعب، وعذاب وقلق، وترقب وفرحة، وانكفاء ورجاء، واستعداد وطموح، وإذلال وتلوّن، وخيبة واعتداء، وانفتاح وانغلاق، ومودة وقهر، وقرب وبُعد، وضحك وبكاء، وغضب ورضا، وصحة ومرض، وانفلاتٍ وتطاحن، ونجاحٍ وفشل، وأمل وقنوط، وانفساح وتمرد، وقناعة واقتناع، ورفض وقبول، وسكوت واحتجاج… وما إليها كثير…ولقد تركتُ لهذا الصراخ الحرية في الظهور دونما اعتبار للتاريخ أو التوقيت أو التنظيم، فكلما ارتفعت صرخةٌ سجلتها… ولعل ذلك أبعده، من غير ترتيب مني، عن الملل والسآمة.

ويكفي هذا الجزء من التقديم، بما يحمله من عمق أدبي وإلمام باللغة وغزارة في المعنى، لتطل على سعة ثقافة محمد السعيدي الرجراجي.

وبالنظر إلى مكتبته العريقة والغنية بالمراجع والإصدارات، والتي كانت بنكا نادرا للوثائق الوطنية، يمكن القول إن السعيدي الرجراجي تجاوز حدود التأليف، إذ كان رحمه الله مثالا للفقيه الذي يزاوج بين العلم المتجذر في إرث “زاوية ابن حميدة” التي ينتمي إليها، وبين الانفتاح على مستجدات العصر السياسية والأدبية.

وبالتالي، تمثل مرجعيته ثقلا كبيرا في حقول التاريخ الصوفي، وتوثيق الذاكرة الوطنية، ودراسة الأدب النقدي.

ذلك أن العديد من مؤلفاته ودراساته النقدية تحولت إلى مصادر أساسية للباحثين.

وُلد الراحل محمد السعيدي الرجراجي في أواخر دجنبر 1939 بزاوية ابن حميدة نواحي مدينة الصويرة، في بيت مشهود له بالعلم والفقه والثقافة والسياسة أيضا.

فوالده عبد الله الرجراجي كان عالما فقيها ألّف عدة مؤلفات في التاريخ والسياسة والفقه والسيرة النبوية، منها: “السيف المسلول فيمن أنكر على الرجراجيين صحبة الرسول” (في جزأين)، و”المواهب الربانية في ذكر مناقب الطائفة الرجراجية”، و”مرآة الدسائس في محنة الاستعمار المُزالة بفضل الله وعبده محمد الخامس”. كما كان جده من العلماء الذين كتبوا في تاريخ رجراجة.

وبعيدا عن إلمامه بالعلم والفقه، فقد كان عبد الله الرجراجي أحد رموز المقاومة التي ناهضت الاستعمار الفرنسي من قلب رجراجة، كما أن بيته آوى الشهيد محمد الزرقطوني لمدة شهر أثناء مطاردته من قِبل الفرنسيين عام 1954.

والأكثر من ذلك أن الطفل محمد السعيدي الرجراجي عانى، وهو ابن خمس سنوات فقط، النفي مع عائلته لمدة اثنتي عشرة سنة نواحي آسفي (1944 – 1956).

فقبل هذه الحقبة، نزل الفرنسيون إلى رجراجة وأخذوا يتفاوضون مع بعض مشايخ المناطق، وضمنها قبائل وشرفاء الزاوية، وكان أن أُخضع بعضهم لإرادة المحتل، ومنهم من تعامل معه بإرادته، لكن عبد الله الرجراجي، بحسب المقربين منه، رفض أن يضع يده في يد المستعمر، فكان أن نُفي بمعية عائلته عن “شياضمة” (حيث تتواجد الزاوية التي تعلق بها كثيرا) إلى منطقة عبدة.

وهذا النفي، بحسب هؤلاء، حفّز الطمع في محيطه، حيث استغل بعض الأقارب الفرصة للتكالب على أملاك العائلة.

وفيما بعد، توسط الملك محمد الخامس، عن طريق القاضي العبادي، لاستعادة عبد الله بعض أملاكه، وليس كلها.

هذا النفي القسري آلم عبد الله كثيرا، فكتب عن هذه المحنة بخط يده: “الحماية إلى غير رجعة، لقد أذهبت شبابي، ونفتني إلى تراب غير ترابي، وأضعفت إهابي، وصيرتني صعلوكا بعد أن كنت سيد ترابي، وصرت أجلس على الحصير بعد أن كانت تحتي النمارق والزرابي.”

وتشير بعض المصادر إلى أن والد سيدي محمد السعيدي الرجراجي (عبد الله) ربط علاقات قوية مع عدد من الزعماء والعلماء، ضمنهم علال الفاسي والرحالي الفاروق وعبد الحي الكتاني وغيرهم، كما كان يزور الملك محمد الخامس، وكتب له عديد الرسائل في مناسبات دينية ووطنية.

ويقول في إحداها، بعد زيارة الملك لطنجة عام 1947: “إنني وأنا عبد الله مقدم رجراجة نزيل عبدة مؤقتا (كان منفى آنذاك)، من رعاياك المخلصين، فاقبل مني هذه الهدية.

ويقول فيها: “مولاي، خطبتك في 10 أبريل أحدثت في المعمور التبديل، وخشي منها الحقير والجليل، وتخطت الكنانة والحجاز، ووصلت إلى دلهي واستشير عليها في القوقاز، ولاسيما حيث وصلتَ جبل طارق ووقفتَ على المفاز، فعند ذاك أذعن أقطار السياسة الديمقراطيون وقالوا هذا الزعيم فاز.”

وقد أوصل بيده هذا الخطاب إلى الملك محمد الخامس عن طريق كاتبه الخاص آنذاك أحمد بن مسعود الصويري.

في هذا البيت العريق الذي تنفس العلم والسياسة وذاق ألم النفي القسري، نشأ محمد السعيدي، فتلقى تعليمه الأولي في الكُتاب على يد شيوخ كبار، وحفظ القرآن الكريم وهو دون العاشرة، إلى جانب تعلمه قواعد التجويد والقراءة برواية ورش.

كما واصل تعليمه النظامي بـ”المدرسة العبدلاوية الحرة”، حيث حصل على الشهادة الابتدائية سنة 1956، ثم التحق بـ”الكوليج”، فـ”ثانوية محمد الخامس” بمراكش، التي تلقى بها علوم اللغة العربية وتاريخ الإسلام والعلوم والطبيعيات والأدب الفرنسي وتاريخه، قبل أن يتابع دراسته في مركز تكوين المعلمين بالمدينة الحمراء عام 1959.

وفي سنة 1964 نال شهادة الباكالوريا، والتحق بكلية اللغة العربية بمراكش، حيث تتلمذ على نخبة من العلماء المغاربة والمشارقة من أعلام الفكر العربي والإسلامي.

وتُوّج مساره العلمي بالحصول على الإجازة سنة 1967، إلى جانب دبلوم الترجمة ودبلوم الصحافة العامة من القاهرة سنة 1961، وهو ما أتاح له أفقا معرفيا واسعا جمع بين الدرس الأكاديمي والممارسة الإعلامية والفكر النقدي.

في ستينيات القرن الماضي، أخذت معالم مساره المهني ترتسم بوضوح، إذ تقلّد الراحل مناصب إدارية وتربوية في وزارة التربية الوطنية، موازاة مع نشاطه الفكري والأدبي الذي انفتح من خلاله على مجالات متعددة.

كما شارك في ندوات ولقاءات علمية داخل المغرب وخارجه، وأسهم في الصحافة بآرائه القيمة من خلال مقالاته في جرائد: العلم، الرأي العام، المشاهد، الميثاق الوطني، النضال الديمقراطي، دعوة الحق، مجلة أمل التاريخية، ومطبوعات المندوبية السامية للمقاومين وأعضاء جيش التحرير، ومجلة جامعة بن يوسف، فضلا عن اشتغاله معدا ومقدما لبرنامج “نافذة الأسبوع” بإذاعة مراكش الجهوية سنة 1968.

كما حصل على الجائزة الأولى لأقدم وثيقة في مسابقة جريدة العلم بمؤسسة علال الفاسي.

وانطلاقا من اهتماماته المتعددة وتخصصاته المتفرعة، جاءت كتاباته الصحفية شاملة ومتنوعة، من أهمها: هداة أناروا طريقي، في التصوف وأشياء أخرى، الفقيه الأستاذ عبد الكبير الزمزاني، قليل من التاريخ، نفحات ذكريات الشاعر بنعياد، العابقة بأريج الإخاء والتواد، وغيرها كثير.

لقد تميزت مؤلفات محمد السعيدي الرجراجي بتنوع موضوعاتها وتكاملها، إذ امتدت من الشعر إلى التاريخ، ومن النقد الأدبي إلى التحقيق والترجمة والفكر السياسي.

ففي الشعر مثلا كتب عدة دواوين، ضمنها: الحياة وأنا، دمع العراق ودمعي، قلمي فديتك، من أحاور، كالشمس في طفل، ملامح هادئة (من ستة آلاف بيت)، أمل وضياء، تقول وأقول، قبسات من سيرة نبي الإسلام (من أربعة آلاف بيت).

ومن أبرز مؤلفاته المطبوعة: الحياة وأنا (شعر، 1968)، الهاربة (رواية، 1973)، السيف المسلول فيمن أنكر على الرجراجيين صحبة الرسول (تحقيق، 1987)، شاعر الحمراء بين الواقع والادعاء (جزآن، 1999 و2001)، الفقيه محمد العبدي الكانوني: حياته وفكره ومؤلفاته (2000)، رجراجة وتاريخ المغرب (2004)، جواهر الكمال في تراجم الرجال (تحقيق، 2004)، رباط شاكر والتيار الصوفي حتى القرن السادس الهجري (2010)، صراخ الذاكرة (لمحات من سيرة ذاتية، 2019)، وعلال الفاسي.. صوت أمة وضمير شعب (2025).

كما ترك أعمالا قيد الطبع، منها: تواريخ مشرقة من حياة الملك والشعب، واقع الصراع في منطقة المغرب العربي، دور العلماء في الأمن الروحي والوعي الفكري في عهد الدولة العلوية، وأعمال أخرى غير مطبوعة، ضمنها القصيدة العمودية بين الأصالة والتحديث، في الإسلاميات، أحاديث أدبية، الهاربة (الجزء الثاني)، علاقة المغرب بإفريقيا من خلال عهد المنصور الذهبي، والدي كما عرفته، المغرب: هوامش في سفر التاريخ والسياسة… فضلا عن كتب أخرى محققة، مثل: سلم القاصدين إلى حضرة أشرف المرسلين، المواهب الربانية في مناقب الطائفة الرجراجية، مواهب المنان فيما طلبه السيد عمر بن سليمان.

ومن خلال هذا الزخم التأليفي الذي أهّله ليصبح عضوا فاعلا في اتحاد كتاب المغرب، حصل محمد السعيدي الرجراجي أيضا على وسام الاستحقاق الوطني من الدرجة الممتازة.

كما امتدت اهتماماته إلى الأنشطة الثقافية والجمعوية، فقد كان رحمه الله عضوا فاعلا بمؤسسة الفقيه عبد الله السعيدي الرجراجي للتنمية والثقافة، وكاتبا عاما سابقا لجمعية أساتذة اللغة العربية بمراكش، ورئيسا سابقا لجمعية خريجي كلية الدراسات العربية بالمدينة نفسها، فضلا عن رئاسته لمؤسسة الكانوني للتنمية الثقافية والاجتماعية بأسفي، التي يُعد مؤسسا لها.

كما كان ممثل زوايا رجراجة في لقاءات سيدي شيكر العالمية للتصوف، وعضوا فاعلا بجمعية إحياء جامعة بن يوسف بمراكش.

وبعيدا عن إرثه العلمي، عُرف الراحل بتواضعه الكبير وأخلاقه العالية وزهده في مظاهر الدنيا، فكان حاضرا في الذاكرة الثقافية لآسفي كصوت هادئ عميق، يحمل فكرا شموليا وروحا وطنية متجذّرة.

واليوم، وبعد ألم الغياب، يمكن القول إن الفراغ الذي تركه رحيل محمد السعيدي الرجراجي هو فراغ مهول يصعب سده، فقد خسرنا برحيله مدرسة في البحث والتأليف والتوثيق، وضميرا حيا ظل يضيء سماء الثقافة بعشرات المؤلفات في التاريخ والسياسة والفكر والأدب.

ويبقى عزاؤنا أن هذا الإرث الضخم سيظل شاهدا على علمٍ من أعلام المغرب اشتغل في صمت، ورحل في صمت، ودُفن في صمت إلى جانب والده في الزاوية نفسها التي نفاهم منها المستعمر عام 1944.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *