عادل الزبيري*
يمسك بيد قطعتين من الخبز الصغير الفرنسي بالشوكولاتة وبيده الأخرى كأس عصير، يأكل ويتكلم في الوقت نفسه. يراقب المشهد، ينتظر ضحية، فيتخلص من الكأس بوضعه في مزهرية كبيرة الحجم، فيما يمسك الميكروفون بإسفنجة لونها أزرق.
يوجه البوق صوب وجه وزير في الحكومة المغربية الجديدة ويطرح السؤال على المسؤول: “شنو بيغيتي تدير؟”، ويزيد قائلا بنبرة حادة جدا، “إيوا زيد قول لينا؟”.
هذا مشهد رويته بكل أمانة كما رأيته، وهو نموذج لمئات المشاهد التي خزنتها ذاكرتي، بحرقة ممزوجة بخيبة أمل، لواقع مهنة تعاني من انحطاط غير مسبوق في تاريخها في المغرب، والله أعلم.
ضممت يدَي وسلمت ميكروفوني لصديقي عبود واستسملت طواعية لضربة شمس في نهار ربيعي، عساني أستيقظ من كابوس حقيقي وموجع بات يقلقني حيال مهنة صارت ماخورا للجميع، اسمها الكلاسيكي هو الصحافة، ولقبتها عبر تغريداتي بالكهرباء.
ومن باب التوضيع، تجنبا لأن يعتقد قارئ أو صديق أو زميل صحافي مهني يشتغل في موقع إخباري محترم أني أعمم قصدا، إليكم تعريفي: الكهربائي هو شخص دخيل، غير مهني، يحمل كاميرا أو ميكروفونا أو آلة تصوير فوتوغرافي أو شيئا للتمويه أمام الآخرين ويحمل، في حالات نعرفها جميعا، أجهزة مهنية ولكن استخدامها يسيء إليها كأجهزة أولا.
والكهربائي في الصحافة لا يتوفر على بطاقة الصحافة المهنية، يبحث عن كل الندوات من أجل تأمين وجبة فطور أو غذاء أو وجبة عابرة ويستولي على الملفات الصحافية ويكون وقحا ويدّعي أنه يعرف الجميع ويسلم بحرارة على الوزير وعلى الغفير ويجادل في معرفة كل خبر ويرفع يده أولا دوما بالسؤال.
ومع الأسف الشديد، نبتت في واضحة النهار، وأمام الكل، عشرات الميكروفونات واللوغوهات بأسماء وبكل ألوان قوس قزح، لا أعرف هل هي صحافية ومهنية وتحترم من يشتغل فيها أم هي دكاكين لمواقع على الإنترنت، تشتغل بمنطق الابتزاز والسب والقذف ونشر أخبار ملفقة وكاذبة أو على الأقل إعادة تدوير أخبار أو سلخ لأخبار وقصاصات وكالة الأنباء المغربية الرسمية.
وسيتفق معي كل صحافي وكل مصور تلفزيوني وكل مصور فوتوغرافي مهني على أن المهازل التي نعيشها في العمل اليومي في مواجهة المتطفلين باتت تحتاج إلى وقفة تأمل جماعي ولرد فعل من المهنيين ومن الحكومة المغربية واعتماد بطاقة الصحافة كقاعدة غير قابلة للنقاش لدخول أي منتسب إلى مهنة الصحافة إلى أي مقر لأي مؤسسة أو نشاط.
وأستغرب كيف لمسؤول حكومي مغربي أو لأي شخصية راغبة في التواصل تجد أمامها عشرات الميكروفونات في المنصة، لمؤسسات يحملها أصحابها في جيوبهم، تتحدث الشخصية وتعبر عن رأيها، وكأنها فعلا تتحدث للصحافة، ولكنها في الحقيقة تعيش وهما، وأقترح على الراغبين في التواصل المباشر اللجوء إلى المباشر المجاني والمتاح اليوم عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
وتفقد الصحافة في المغرب ما تبقى لها، مع الأسف الشديد، من مهنية ومصداقية وسط هذا الهجوم الشرس للانتساب الظالم من فئة اجتماعية وجدت بين يديها آليات عمل رخيصة الثمن ويمكنها أن تضخ فيديوهات في حساب على يوتيوب، فتسمع عبارة بصوت جهوري: “أنا صحافي”.
أظن أن تواطئا جماعيا يمارسه الجميع في المغرب من أجل ذبح الإعلام والصحافة والمهنية، إذا لم تكن الجريمة تمت أمام أنظار الجميع وتحول المهنيون، أو ما تبقى منهم، على قلتهم، إلى مجرد دخلاء غرباء وأصبح الصحافيون المهنيون هم من كانوا مصورين في القريب العاجل في الأعراس، أي “لقايجية” بالتعبير العامي المغربي، أو مصورين في ندوات للأشخاص وعارضين لصورهم للبيع، أو من قادتهم الوقاحة للبحث عن تمويل أكلي يومي، وتطول اللائحة.
وما دامت هي تغرق أو غرقت، أطلق صرخة جديدة، فرديا، من أجل أن ينتبه المغرب إلى أن السلطة الرابعة تعاني من تسمم غير مسبوق ومن هجوم أدى إلى تسفيه الصحافة، ولكن فرض أسلوب اشتغال جديد، لا يوجد في أي مدرسة إعلامية مهنية أو أسلوب اشتغال متعارف عليه عالميا.
وأمام حالة من الصمت الجماعي، أو الاستسلام أمام “الجراد الكهربائي”، حيال واقع مهنة الصحافة، سأواصل تأملي لما أعايشه من حوادث مرور يومية، أبطالها دخلاء أو زوار مزعجون أطالوا المكوث باسم انتماء غير مشروع.
فرجاء ارحلوا عن صحافتنا لأنها ليست لكم، صحيح أننا ضعفاء ولطفاء، وأنتم وُقحاء وجُلفاء، ولكن المقاومة فعل نبيل ولو بالكتابة، لأنها السلاح الأول والأخير، في انتظار أن تفهم حكومتنا الموقرة أنها صمتت دهرا فأقبرت المهنة ربما إلى النهاية.
وميال إلى الاعتقاد أن المستفيد من هذا الوضع، أيضا، هم أصحاب رؤوس أموال، يرون إمكانية تأسيس مقاولة صحافية عبر الإنترنت وتشغيلا بأقل راتب شهري، لمن يراهم صحافيين، ظانا أن الصحافة عبر الإنترنت هي دجاجة ستبيض له ذهبا، فيما واقع الصحافي المهني، في الراتب والاشتغال، لم يُحترم بعد اتفاقيات سابقة موقعة.
ومن باب المقترحات، كما تقتضي المنهجية، تعديل في قانون الصحافة، فمن أجل الحصول على صفة صحافي مهني وبطاقة الصحافة وحق الممارسة المهنية، يجب أن يُلزم القانون المغربي بسنة واحدة على الأقل في التكوين الصحافي، مع شهادة الإجازة الجامعية، أو شهادة دراسية جامعية على الأقل من ثلاث سنوات في معهد أو جامعة تُدرس الصحافة.
وأدعو كل المهنيين في المغرب إلى التفكير في مؤسسة للضبط المهني، تشبه هيئة المهنة عند الأطباء أو المهندسين أو غيرهم، فلا يعقل الاستمرار في ممارسة لعبة الصمت الجماعي أمام هذا الزحف فقط على مهنة الصحافة، من كل من سقطت فكرة على رأسه واستيقظ صباحا وقال وجدتها، “من اليوم… أنا صحافي”.
في 2000، قدمت إلى الرباط، أحمل معي شهادة الباكالوريا من مدينتي طنجة، لدراسة الصحافة، في المعهد العالي للإعلام والاتصال، راكضا وراء حلم طفولتي. نصحني خالي عبد الصمد بن شريف نصيحة غالية جدا، بأن أبحث عن مهنة أخرى بعيدا عن الصحافة، نصحني انطلاقا من تجربته المهنية والممارسة، كان صادقا معي يومذاك، أعترف.
ركبت دماغي وصممت على دراسة الصحافة لمدة أربع سنوات، قادما من العلوم التجريبية، في المرحلة الدراسية الثانوية، لا أقول ندمت اليوم على دخول بلاط صاحبة الجلالة، بعد أكثر من عقد من الممارسة المهنية، التي أعتز بها غاليا وعاليا، ولكنني حزين جدا للواقع المهني في المغرب، أصبحت الصحافة أشبه واقعيا ببطولة لكرة القدم، تجمع أندية من الأحياء السكنية العشوائية، يلعبون بدون أحذية رياضية، كل واحد بما جادت رجله، ومنهم من يضرب الكرة حافيا، والكرة الذي يضربون مصنوعة من كرتون ملفوف في جورب، ولكن الشعار الكبير: هو “بطولة احترافية”، فهل من منتفض معي ضد الرداءة والكهرباء؟!
وفي الختام، أعود إلى المشهد نفسه، الذي جرى في بهو مقر وزارة مغربية في الرباط، أراقب شخصا يحمل مصورة ذكرتني بآلات التصوير التي استعملناها قبل الهواتف الذكية ومواقع التواصل الاجتماعي ويعلق على رقبته شارة، دققت النظر، فوجدتها بطاقة صحافة مزورة، بالاسم الكامل وبالمؤسسة التي سماها لنفسه، مع خطين أحمر وأخضر، فيما لا يزال يزيل من فمه بقايا مروره الكريم بموائد الرحمان، فهنيئا لكم.
***
