بعد قضية “طحين الورق” التي تفجرت قبل أيام قليلة، حيث أمرت النيابة العامة بفتح بحث قضائي حول ما أثير من معطيات حول خلط أو “طحن” الورق مع الدقيق خلال تصريحات رئيس فريق حزب الأصالة والمعاصرة بمجلس النواب أحمد التويزي، تعود النيابة العامة من جديد للقيام بنفس الإجراء القضائي وتأمر بفتح بحث قضائي أيضا بخصوص ما صدر عن النائب ورئيس المجموعة النيابية لحزب العدالة والتنمية عبدالله بوانو !! .
وبعكس ما صرح به الكثير ممن في بطونهم “عجينة ورق” بأن مثل هذه الإجراءات القضائية تعتبر مساسا بالحصانة البرلمانية التي يتمتع به النواب البرلمانيون، وهذا خلط خبيث ومتعمد وغير بريء، فإن الإجراء القضائي لا غبار عليه وهو قانوني ودستوري.
ل، بل، ويعتبر من صميم استقلال سلطة القضاء واستقلال السلطة التشريعية، ومظهرا بيّنا من مظاهر ربط المسؤولية بالمحاسبة، على اعتبار أن موضوع البحث القضائي لا يهم الجانب الموضوعي للحصانة البرلمانية، الذي يؤطره الفصل 64 من الدستور، وإنما ينصب على الجانب الإجرائي للحصانة البرلمانية، الذي استدعته جرائم مفترضة أثيرت في المؤسسة التشريعية.
وعنصر إفتراض وقوع جرائم وحده يقوم مبرراً لتتدخّل النيابة العامة من تلقاء نفسها، ولمباشرة الأبحاث القضائية اللازمة لاستجلاء الحقيقة.
ووحده أيضاً القانون فوق الجميع، بمن فيهم الذين يتمتعون بـ”حصانة برلمانية”، التي لا يجب أن تفهم على أنها تَعفي حاملها والمتمتع بها من المساءلة القانونية والقضائية في حال وقوع جريمة أو انتهاك للقانون.

لأن الفصل 64 من دستور المملكة (2011)، الذي ينص على الحصانة البرلمانية، قد عمد إلى “تقييدها” بل وحصرها في ما يمكن وصفه بـ”الرأي السياسي” المدلى به من قبل هذا النائب أو ذاك أثناء أدائه مهامه النيابية، وخلال نشاط نيابي رسمي لا خارج.
وغني عن البيان. أن الفصل المشار إليه ينص على أنه: “لا يمكن متابعة أي عضو من أعضاء البرلمان، ولا البحث عنه، ولا إلقاء القبض عليه ولا اعتقاله ولا محاكمته بمناسبة إبدائه لرأي أو قيامه بتصويت خلال مزاولته لمهامه، ما عدا إذا كان الرأي المعبر عنه يجادل في النظام الملكي أو الدين الإسلامي أو يتضمن ما يخل بالاحترام الواجب للملك”.
فلما كان الأمر كذلك والحالة هاته، فالتخصيص هنا واضح، وهو التعبير عن رأي، وليس ما يفيد بوجود جرائم محتملة ترتكب في حق المجتمع وتُخِل بالأمن العام، ما قد يرتقي إلى مرتبة التبليغ بوجود جريمة الذي يُجرّم القانون المغربي السكوت عنه، وهذا ما يفرض على السلطة القضائية أخذه على محمل الجد والتدخل للتعامل معه بما يلزم من حزم حماية للقانون والمجتمع.
لذلك، يمكن لمؤسسة النيابة العامة متى إرتأت ذلك يفيد الحقيقة، إستدعاء النائب المعني بالإفادة أو التبليغ العلني بوجود شبهة جريمة للبحث معه.
وطبعا بعد إتخاذ ما يلزم من إجراءات قانونية، وأولها توجيه طلب إلى رئاسة المؤسسة التشريعية لمباشرة رفع الحصانة، الذي يبقى مع ذلك إجراء مسطريا لا يعني بالضرورة الإدانة..
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن من شأن تدخّل القضاء في مثل هذه الحالات أن يحسم ويتصدى لمسألة إستغلال البعض من السياسيين للمؤسسة التشريعية، إما لتصفية حسابات مع الخصوم أو لاتخاذها منصة لإطلاق حملات انتخابية ودعائية لكسب أصوات المناصرين وحشد المزيد من المؤيدين لتوجهاته السياسية.
لذلك فإن الحصانة البرلمانية ليست “صكَّ غفران” مُطلقًا، ولكنها “رخصة استثنائية” مقيدة بشروط ضبطها المُشرع بدِقة..
واللي دار الذنب يستاهل العقوبة… والسلام عليكم ورحمة الله.
*الدكتور -نور الدين اليزيد
