في المغرب، يرتقب أن يترأس الملك محمد السادس، خلال الساعات القادمة، بالقصر الملكي، مجلساً وزارياً بجدول أعمال يتضمن توجّهات استراتيجية.
وعادةً ما يُخصَّص المجلس الوزاري، الذي يلي افتتاح جلالة الملك للدورة التشريعية للبرلمان، للمصادقة على التوجهات الاستراتيجية للسياسة المساهماتية للدولة، ومنها مشروع قانون المالية برسم سنة 2026.
كما تقدّم الحكومة، ممثلةً في وزارة الاقتصاد والمالية، الخطوط العريضة لمشروع الميزانية ولتوقعات نسبة النمو والتضخم.
بيد أن عرض مشروع قانون المالية أمام جلالة الملك، يأتي هذه السنة، في سياق سياسي استثنائي، يتسم بتعبيرات شبابية ترفع مطالب اجتماعية، وفي السنة الأخيرة من عمر الولاية الحكومية الجارية.
وبين هذا وذاك، يطلّ التطور الاقتصادي على بلادنا، بسؤال..لماذا نحتج حين نتقدم ؟ .
أمام هذا المشهد، يبدو أن المغرب، مرة أخرى، يكتب استثناءه الخاص في دفتر التحوّلات الإقليمية.
ففي الوقت الذي تهتزّ اقتصادات الجوار تحت وطأة الأزمات، يواصل الاقتصاد المغربي تحقيق مؤشرات نمو لافتة.
ومع ذلك، تعالت، في الأسابيع الأخيرة، أصوات الاحتجاج من الشارع، مطالبة بإصلاحات اجتماعية عاجلة.
مفارقة تبدو غريبة في ظاهرها: بلد ينمو باقتصاده، لكنه يعبّر من أعماقه عن مطالب اجتماعية.
الاضطرابات عادةً ما تكون في الدول المفلسة أو العاجزة عن تمويل أبسط حاجات مواطنيها.
أما في المغرب، فقد جاءت الاحتجاجات في لحظة نمو اقتصادي مضطرد ومتدرّج، وكأن الشارع يقول بلغة صريحة: “نريد عدالة مجالية بقدر ما حققنا من نمو وتنمية”.
إنها لحظة صاخبة في دلالتها، تُعبّر عن عمق الوعي المجتمعي أكثر مما تعبّر عن اختلال في المسار الاقتصادي.
وهذا ما تفاعلت معه الدولة والحكومة، في انتظار حوار وطني تواصلي يتسع لجميع أبناء الوطن.
تُشير البيانات الأخيرة الصادرة عن المندوبية السامية للتخطيط بوضوح إلى أن الاقتصاد المغربي يسير بخطى واثقة.
فقد ارتفع معدل النمو إلى 5.5% خلال الربع الثاني من عام 2025، مقارنة بـ3% فقط في الفترة نفسها من العام الماضي، أي ما يقارب ضِعف المعدل.
كما ارتفع الطلب الداخلي بنسبة 9.2%، وهو ما يعكس دينامية الاستهلاك والإنتاج المحليين، في وقت شهدت فيه الأسواق الدولية تقلبات حادة.
أما الاستثمارات الأجنبية المباشرة، فقد سجلت قفزة نوعية بنسبة 47.6%، لتصل إلى حوالي 23 مليار درهم في الأشهر الثمانية الأولى من السنة، وهو رقم غير مسبوق يعكس الثقة الدولية المتزايدة في استقرار المملكة وجاذبيتها.
وفي مؤشر آخر على صلابة الاقتصاد، رفعت وكالة “ستاندارد آند بّورز” (أشهر شركة خدمات مالية عالمية ومقرها في الولايات المتحدة) التصنيف الائتماني للمغرب إلى مستوى (BBB-/A-3) مع نظرة مستقبلية مستقرة، مؤكدة أن المملكة تمكنت من الحفاظ على توازناتها المالية رغم الصدمات المتكررة التي عصفت بالاقتصاد العالمي.
كما سجل معدل التضخم مستويات قياسية من الانخفاض، إذ لم يتجاوز 1.1% خلال الأشهر الثمانية الأولى من السنة الجارية (2025).
بينما تراجع معدل البطالة إلى 12.8%، في أدنى مستوى فصلي له منذ عامين، رغم توالي سنوات الجفاف وإرث الحكومات السابقة.
وحتى قطاع السياحة، الذي يُعدّ أحد قاطرات النمو، استعاد زخمه بقوة مع استقبال 13.5 مليون سائح ما بين يناير وغشت 2025، أي بزيادة قدرها 15% مقارنة بالسنة الماضية.
تأتي هذه الأرقام في سياق سلسلة من الإصلاحات البنيوية، التي باشرتها المملكة، في السنوات الأخيرة.
فقد واصلت الحكومة تفعيل صندوق محمد السادس للاستثمار، الذي يُعدّ ذراعًا استراتيجيًا لدعم المشاريع الكبرى والابتكار، إلى جانب ميثاق الاستثمار الجديد الذي منح دفعة قوية للشراكة بين القطاعين العام والخاص.
كما رحّب صندوق النقد الدولي، في تقريره الأخير، بأداء المغرب، مشيدًا بما وصفه بـ”الانضباط المالي والجرأة الإصلاحية”، ومثنيًا على التزام المملكة بربط الدين العام بأهداف متوسطة الأجل وتحسين كفاءة النفقات.
أما البنك العالمي فقد أشاد بالسياسات الاجتماعية الجديدة، خصوصًا برنامج الدعم المباشر للأسر، الذي شمل أكثر من 3.9 ملايين أسرة حتى مارس الماضي، معتبراً أن المغرب أصبح نموذجًا في إدماج البعد الاجتماعي في السياسات الاقتصادية.
هذه المؤشرات مجتمعة لا تمثل مجرد نجاح في الأرقام، بل تعكس رؤية استراتيجية متماسكة تُوازن بين الاستقرار المالي والتحول الاجتماعي، بين الدولة الاستثمارية والدولة الراعية.
غير أن ما حدث في الشارع خلال الأيام الماضية أعاد طرح سؤال أعمق: هل يمكن للاقتصاد أن ينجح بمعزل عن السياسة؟.
الجواب يأتي من قلب المفارقة المغربية نفسها: فبينما تتقدم أرقام الاقتصاد بخطى متسارعة، تبقى مشاعر المواطنين محصورة في منطقة الطموح بتأثير الاقتصادي في الاجتماعي، وتقليص هوّة الإحساس بالإنصاف.
ذلك أن النمو وحده لا يكفي إن لم يتحوّل إلى شعور جماعي بالعدالة المجالية.
إن الاحتجاجات الأخيرة لم تكن ضد الاقتصاد، بل ضد تراكمات عقود من سوء توزيع ثماره، وهو ما تحاول الحكومة معالجته.
فالشباب الذين خرجوا إلى الشارع لا ينكرون التحسّن الماكرو-اقتصادي، الذي تحقق على عهد الحكومة الحالية، بل يسألون: أين نحن من هذا التحسّن؟.
لماذا لا ينعكس على فرص الشغل، وعلى جودة المدرسة والمستشفى العمومي؟.
والحقيقة أن ما بين الرضا بالأرقام والقلق من الواقع، تتشكّل صورة مغرب جديد: اقتصاد متماسك، ومجتمع يزداد وعيًا بمطالبه…
ولعمر لهذا هو مجتمع العدالة والكرامة ودولة الاختيار الديمقراطي.
إن المفارقة التي قد يراها البعض “عجيبة” ليست إلا علامة صحية.
فالمجتمعات الناضجة تحتج حين تتقدم، لا حين تنهار.
اليوم، يحتاج المغرب إلى الانتقال من مرحلة “النمو الاقتصادي” إلى مرحلة “العدالة التنموية”، وهو ما عبّر عنه خطاب جلالة الملك في افتتاح البرلمان.
انتقال تتوزع من خلاله مكاسب الإصلاح بين كل الفئات، وتصبح فيه السياسات العمومية مرآة لجهد الدولة والمجتمع معًا.
لقد تجاوزت المملكة اختبار الصدمات المالية، وآن لها أن تتجاوز اختبار الثقة الاجتماعية.
اليوم، يتبيّن أن قوة النظام في المغرب ليست في صمته، بل في قدرته على التفاعل بحكمة مع صوت الشعب، والمبادرة إلى الإصلاح في ظل الاستقرار والاستمرارية.
فلا معنى ألا ننصت إلى صوت شعب يطمح إلى خدمات اجتماعية تليق بمكانة بلادنا.
ولا معنى أن نسقط حكومة حققت نموًّا في ظل أزمة عجزت عن تجاوزها دول في أوروبا…
وإلا سنكون، كمن يطالب بإقالة وليد الركراكي من العارضة الفنية للمنتخب الوطني، وهو الذي بلغ بالمنتخب نصف نهائي كأس العالم في قطر 2022، وضمن التأهل إلى مونديال 2026، وارتقى بتصنيف الفريق المغربي إلى الرتبة 11 عالميًا، فقط لأنه خرج من ربع نهائي كأس إفريقيا بالكوت ديفوار 2024، أو لأن هناك من “عينهم في مول الكرة”!.
أليس هذا هو الاستثناء المغربي؟.
إننا اليوم ندخل نادي الدول الصاعدة حيث نحتج حين نتقدّم، لا نحتج حين ننهار.
لماذا؟ .
لأننا نطمح في تقدم متواصل ومستمر لمغرب جميل مستقر ومزدهر…
*جريدة le12

