عبد الرزاق بوتمزار
ح. 107
الزّبونُ ملِكٌ صغير لولا هَؤلاء..
في دكاني الصغير، في ذلك الشّارع الخلفيّ، سأرى عجباً في مجال التّجارة الذي اقتحمته مُكرَها، هُروباً من عطالة مُتربّصة. سأكتوي بنيران مُعامَلات غرائبيّة ما كانت لتخطر ببالي، خصوصا حين يصدر التصرّف من أشخاص كنتُ أُنزِلهم مكانة لا يمتدّ إليها الشكّ.
لأنّ محلي كان قريبا من المُؤسَّسة التي تابعتُ فيها دراستي الثانوية، كانت جلّ مُعامَلاتي مع التلاميذ؛ كما صار الأساتذة، بدورهم، يقصدونني، بالخصوص من أجل نسْخ وثائقهم الإدارية وأوراق امتحاناتهم. التعامل مع رجال التعليم صعبٌ للغاية؛ خلصتُ إلى هذه القناعة من تلك التّجربة البعيدة، غير المأسوف عليها. كان أوّلَهم شخصٌ يأتيني، بين الفينة والأخرى، مصحوباً بوثيقة أو وثيقتين. حين أمدّ إليه النّسخة كان يَقلبها بين يديه ويتأمّلها، كأنّي به يبحث فيها عن تفصيل لم يكنْ في الوثيقة الأصليّة وأخرجتْه له آلتي العتيقة! لم أكن أعير تدقيقَه اهتماماً، في البداية، ما دام أنه كان ينتهي إلى أن يدفع لي تلك الفرنكات البئيسة، في الأخير، ويُغادر.
صديقي إسماعيل هو من انتبه إلى إصرار زبوني الغريب على أن يجدَ عيبا ما في نُسخة الوثيقة التي أحضرها، ذاتَ مساء، كي أستنسخ له منها. كان إسماعيل يتردّد علي كثيرا، خصوصا في الأيام التي لا يشتغل فيها خلال نوبة الليل. لسبب لم أعرفه إلا متأخرا، كان يُفضّل البقاء خارج الدكان.. ألقى ذلك الكهل السّلام ومدّ لي يده بوثيقة طالبا نسخة منها. رفعتُ غطاءَ الآلة الصّامتة وسط المحل وسوّيتُ الورقة في المكان المُخصَّص لها على سطح الزّجاجة وأسدلتُ الغطاء فوقها؛ ضغطتُ على الزّرّ فسُمِع طنينُ الناسخة العتيقة وظهر ضوءٌ جانبيّ ذهابا وجيئة. رفعتُ الغطاء وتناولتُ الوثيقة ونُسختَها من مكانٍ أسفل الطابعة. ناولتُ الزّبون الورقتين واتكأتُ مُجدّدا على سطح واجهة الدّكان وهممتُ بمواصلة حديثي مع صديقي. لم يتركْ لنا الفرصة..
بعد أن قلب النّسخة، على عادته، قال إنّ هناك أمراً ما على غيرِ ما يُرام. دققتُ في النّسخة فلمْ يبدُ لي ما يتحدّث عنه. صحيحٌ أنّ آلتي الناسخة لم تكنْ بالكمال الذي أبتغي؛ لكنها تعطي، رغم ذلك، نُسخاً مقروءة. بالنسبة إليّ، كان الأسبوع أو الأسبوعان المتتاليان اللذان لا أضطرّ فيهما إلى الاتصال بخالد، التقني، كي يُصلح الطابعة كفيليْن بأن يجعلاني راضيا تماماً، مُطمَئنّا إلى أنّ أمور التّاجر تسير كما يبغي الشّاعر.
كنتُ واهماً، ولا شكّ. ألحّ الزّبون الكهلُ على أنّ هناك فرقا بين الأصل والنّسخة.
-هذا أمر طبيعيّ؛ وما الجديد في ما تقول؟ الأصلٌ أصلٌ والنّسَخ مُجرَّد نُسخ، ما الجديد في هذا؟
قال له إسماعيل، وقد انتبه إلى أنّني بدأتُ أفقد هدوئي.
لكنّ الزّبون عاد ليعترض:
-لا، لا، الكتابة غيرُ واضحة.
-حسن، خذ الأصلَ وحدّدْ فيه فقرةً وسأتلوها عليك من النّسخة أمامي!
خاطبه إسماعيل، وهو ينقل عينيه بين وجهي ووجه ذلك الزّبون الغريب. تواطأنا على ابتسامة مُشترَكة، بعد نظرة خاطفة. قطّب هو جبينه وقرّب أحد جاجبَيْ عينيه الضّيّقتيْن من الآخر. في الأثناء، شرع إسماعيل في القراءة. كانت الوثيقة مكتوبة بالفرنسية؛ يتعلق الأمر بفاتورة ماء وكهرباء. خطف الكهلُ النّسخة من يدَي إسماعيل وهو يُتمتم بكلام لمْ يُفهَم منه عدا أنه لا يجد النّسخة كما يريد.
لم أكنْ أحبّذ الحديث كثيرا مع هذا الصّنف من الزّبائن، ولا كان إسماعيل. لمْ يتأخّر الكهلُ في استنتاج ذلك. كنّا، في الحقيقة، نريد فقط أن ندفعه إلى الانسحاب بأسرع ما يمكن لنعود إلى مُواصَلة حديثنا. جمعتنا قصصٌ كثيرة ومُغامَرات مُسلية نُفضّل استرجاعَ شريطها في مثل هذه الأوقات القليلة التي لا يشتغل فيها إسماعيل ليلاً في الفندق البعيد؛ فلماذا تأبى إلا أن تنغّص علينا اللحظة، أيّها الكهلُ السّائرُ إلى حتفك، بعينيك الضّيقتين مثل أفقك؟ خلّ عني، دعني في سلامٍ، رجاءً، لا أريد أن أغتنيّ من وراء ما ستدفع مُقابلَ جميع نسخكَ التي طبعتَ وحتى التي لم تطبع بَعدُ. قالتْ نظراتي وتلقفَ صديقي الإشارة..
-إذن، فأنتَ لم تعجبْك النّسخة!؟
قال، وهو يسحب الورقة من يدَيْ الكهل، بالطريقة نفسِها التي سحبها منه الأخيرُ قبل لحظات. في الأثناء، استدرتُ وتناولتُ قطعته النقدية من الصندوق الخشبيّ أسفل واجهة الدّكان ووضعتُها أمام الزّبون، الذي كان يتوسّطنا. (خذ فرنكاتكَ وواصلْ مسيرَك نزولا عبر شارع حياتك، القصير لو تدري).. قالتْ نظراتنا، بعد حركاتنا السّريعة المُتزامِنة.
شيّعتْه نظراتنا وضحكاتٌ مفضوحة، رغم مُحاولتنا الانتظار إلى أن يبتعد قليلا، ذلك الكهلُ البائس.
عدْنا إلى سرد تفاصيل حكاية قديمة من الأزمنة البعيدة، وصورُ الماضي تضبط سمرنا المسائيَّ على وقع ضحكاتنا من حين إلى آخَر. جمعتنا قصصٌ وحكايا جميلة، فدَعْ خيط الاسترجاع مُسترسلاً أيها الزّبون الأبله، لا تقطعه بكلّ هذه التّمحيصات والمُقارَنات المُضحكة في وثيقة لا تُساوي نسخة منها أكثرَ من نصف درهم.
-دون دلائلَ على سوء ظني، لديّ ما يُشبه اليقين أنّ زبونك هذا من مُتقاعِدي مهنة الطباشير.. هؤلاء مَن يَحسبون لكلّ سنتيم ألفَ حساب.
قال إسماعيل، بعد أن أجبت عن سؤاله بأنّني لا أعرف شيئاً عن مهنته.
-هؤلاء من يحسَبُون خمسين فرنكاً مالاً، أنا أعرفهم جيّداً!
يشرح ضاحكاً. نعود إلى ما كنّا نحكي لبعضنا البعض، وقد ابتعد ذلك الشّخص ماضيا نحو الأمام؛ ولسبب ما، بدا لي كما لو كان يسير عكس خطواته، صوب الماضي!
في كلّ مرّة يريد أن يضربَ مثلاً في البُخل، كان إسماعيل يسترجع صورة قريب له يمتهن التّعليم حرفة. صرنا نحفظ جميعَ النّوادر التي كان يحكيها عنه.
-توصّلتُ إلى نظرية قائمة الذات، نظريّتي الخاصّة بالمُناسَبة، حول هذا الحرص الذي اشتهر به بعضُ رجال التعليم..
هكذا كان يُردّد، وهو يسرح بخياله إلى أيام سابقات، ثمّ يواصل، غيرَ آبه لتعليقاتنا وردودنا:
-لأنهم يُرافقون الصّغارَ فإنهم، بمرور الوقت، وإثر مُعايناتهم اليومية الاهتمامَ الذي يُوليه التلاميذ لقطعهم النقدية الصّفراء التافهة، فإنهم يتأثرون بهم وتصير للقطعة -البائسة في نظركَ وفي نظري- قيمة حقيقيّة من حجم ما لقطعة نقديّة لدى طفل صغير!
يقول إسماعيل للمرّة الألف، وصورُ قريبه تقفز إلى سطح ذاكرته. وحين كان أحدنا يُعقب:
-ليس بالضّرورة، فهناك رجال ونساء في هذه المهنة لا يُعيرون اعتباراً لكلّ أموال الدنيا ولا يهمّهم سوى أن…
كان إسماعيل يبتسم ابتسامة مُلغزة ويقاطع المتحدّث:
-شْغلكومْ هاداكْ، أنا عـارْف عْلاشْ تنهضرْ.. هذه نظريتي الخاصّة، كما قلتُ لكم، وأعرف أنّي لم أستمدَّها من فراغ!
-شخصياً، أعرف كثيرين يشتغلون في قطاع التعليم ويتميّزون بكرم حاتميّ إلى درجة أنهم بقوْا، كأولِ عهدهم بهذه المهنة النّبيلة، “على الضّصّ”، لا يملكون شيئاً ولا يحتاجون شيئا في الوقت نفسه؛ كلُّ ما لديهم ضميرٌ مهنيّ ومبادئُ تقاوم الاستسلام في أزمنة عزّتْ فيها المبادئُ وتحتضر ضمائرُ وماتتْ أخرى موتةَ الأبد!
-أنا لا أنكر ذلك، طبعاً هناك هذا النوع الذي تحدّثتَ عنه، لكنهم فئة قليلة، استثناء؛ أنا أتحدّث عن الظاهرة في عمومها.
رغم كلّ ما كنّا نقول، لم يكن العنيدُ إسماعيل يتخلى عن تلك “النظرية”، التي يقول إنّه يستحقّ عنها براءة اختراع. يحسب نفسَه مالكَ هذا التفسير الفريد عن تأثر بعض رجال التعليم بالأطفال الصّغار، وتحديداً في اعتبار قطعة نقدية بلا قيمة ثروةً حقيقية وجبَ توفيرُها تحسّبا ليوم أسودَ يتربّص بهم عند مُنعرجات الحياة، ربّما هُم تحديداً دون بقية خلق الله!
وإذا نويتَ أن تُقنع إسماعيل بخطأ وجهة نظره -أو نظريته كما كان يُسمّيها- يجب أن يكون لديك صبرٌ أيّوبيّ حديدي، بل نفَسُ رياضيّ حقيقي يحمل الحزام الأسود في أحد فنون القتال. لم نعدْ قادرين على مُعارضته في هذه النقطة بالذات. كانت تلك واحدة فقط من وجهات نظره ونظرياته في الحياة، فما بالك بغيرها كثيرات. أمّا إذا تقاطعتْ مع نظريات أخرى من جيل آخر، من أزمنة أخرى، فالأحرى أن تتناولَ قطعتك المعدنية التّافهة، أيّها الكهل وتختفي في الشّارع! انعَتنا، على وقع خطواتك المُبتعدة، بجميع الأوصاف التي تريد؛ ابتعدْ فقط. ارحلْ، بعد أن تقولَ ما شئتَ؛ لكنْ تنحّ جانباً ولا تُقاطعنا ونحن بصدد إحدى القصص التي جمعتني وإسماعيل وبقيّة العصابة. دعنا نسترجعْ حكايا من أزمنة عشناها ونعيشها جميلة، رغم كلّ القبح الذي فيها من زاويّة عينيك الضّيقتين. ارحلْ، غيرَ مأسوف عليك، ما دُمتَ قد أسأتَ التصرّف مع شاعر ظننته تاجرا.. ما تهُمّني قطعتك النقدية، الضّئيلة حجما وقيمةً، ولا كلّ تلك الكيلوغرامات التي ستكونُ، وفق نظريّة صديقي، قد خزّنتَ منها ها طيلة مسارك الطويل في مهنة تأثرتَ فيها -ربّما- بسلوك تلاميذك حتى صرتَ تظن أنّ خمسين فرنكاً قد تُساوي أكثرَ من.. نصف درهم!
