عبد الرزاق بوتمزار
ح. 99
أعطوني “وظيفْ” أو أحترقْ!
وأنا مُكبّ على كتابة هذه الصفحات تمرّ أمام عينيّ تقارير وأخبار تحمل “سبقاً” خطيراً في جديد احتجاجات حاملي شهادات يُطالبون بحقهم في التشغيل، الذي إنْ كانوا يعدّونه مشروعاً، فإنّه لن يستمدّ مشروعيته، في جميع الأحوال، من شروط عجيبة مثل التي يُنادي بها هؤلاء “المُحترقون الجُدد”، من قبيل عدم خضوع هذا التوظيف المأمول لشرط اجتياز مباراة!..
لديكم شواهدُ عُليا ودبلومات جامعية من جميع الدّرجات والتخصّصات؟.. طيب، وماذا بعْدُ؟ هل لديكم (في عقولكم وسواعدكم على الخصوص) ما تُقدّمون لهذا البلد؟ نعم، تقولون؟ إذنْ، فلتجتازوا مباراة التوظيف وليكنِ “الوَظيفْ” من نصيب أوفّركم تعلّماً، أهلية واستحقاقاً. مَن لم تُسعفهم كلّ سنوات التّحصيل في النجاح فليختبروا مَداركهم قبل تجريب “الحظ” في القبض على وظيفة الدّولة، ولو كرِهتْ مباراة التّوظيف!
لو كنّا عوّلنا على وظيفْ الدّولة لصرْنا “كْفتَة للكلابْ” منذ أزمنة طويلة، طويلةٍ جدّاً، لو تعلمون، أيّها المُجازُون، أيّها الدّكاترة، أيّها المُحترَمون. لو كنّا انتظرنا عطفَ الدّولة، راجينَ أنْ “تشوفْ من حالنا” وتقبلَ بنا “مُنْظـَّفينْ” في مكاتبها الكثيرة، حيث لا خدمةَ تُؤدَّى ولا غرضَ يُقضَى ولا ركباً إلى الأمام يتحرّك.. لو كنّا اعتصمنا واحتجَجنا وصعّدْنا وناورْنا وواجهنا هراوات “مُوّظفينْ” مغلوبين على أمرهم إلى حدّ أنهم يُضطرّون إلى أن يوجّهوا هراواتهم نحو رؤوسكم عند مُنعرَج كلّ تصعيد، ما كنّا جرّبنا ولا اختبرْنا قدُراتنا على صخرِ واقع مغربيّ حافل بالتناقضات؛ فكيف لنا أن نزيد فوق تناقضاته وغرائبه غرائبَنا وتناقضاتِنا؟! لو كنّا ارتكنّا إلى جُغرافيا لا تتجاوز حدود البرلمان ما كُنّا رضينا بتطبيق أقلِّ المأثورات المغربية احتراماً لشخص المُتعلم، عاشق وظيفة مأمولة، رغم أنّها لا تكاد، في عمومها تفعل أكثرَ من تكريس الأزمة؛ ما كنّا عرفنا معنى “اجمع خْراهُم وْما تْسعاهُمْ”!..
أنا مَن أفنيتُ زهرة (قد تكون شوكة) حياتي في حجرات الدّرس وفي المُدرَّجات ماذا تُريدني، أيّها الوطن، الجاحد، أن أشتغلَ، “حُوفارْ”؟!.. أن أشتغل في “لْحفيرْ” و”تَمّارة” بعد كلّ هذا العمر الذي أضعتُ في تحصيل انتهى بي حْصلة بين أيدي “اللي يْسوى واللي ما يسوى بْصلة”، يفعل بي ما يريد، بين أوامرَ ونواهٍ؟!
نعمْ، فعلنا.. طاردْنا “طرْف الخبزْ” حيثما كان، بعيداً حتى عن مُحيط القبّة وشارع محمد الخامس؛ بعيداً عن أنظار زبائن “باليما” ومُرتادي مسجد السّنة.. في زمن غير أيام وليالي العاصمة، باردِها والحارّ. صنَعْنا لأنفسنا تواريخَ صغيرة على هامش سِيَر منسية أضاعوا أبطالها المُكرَهين. صادروا أحلامَنا والأماني. تعقبوا أيّ فرصة تلوح في أفق انتظاراتنا، غير المُشرَع على جميلِ مكاتيبَ وحُظوظ. وحتى في المرّات القليلة التي قَبلتْ أسماءَنا الخشنةَ كونْكوراتُ الدّولة، سرعان ما تلقّفَ وظائفَ الدّولة، كما جرى عرْفٌ ما بذلك، محظوظون كلّ ما كان عليهم أن يبذلوا من جُهد أن يتفضّلوا بالترشّح؛ بتسجيل صقيلِ أساميهِم في لائحة لا أحدَ يضمن لهم ألا تتحرّش فيها أسماءٌ حْرْشة بلطيف ألقابهم وناعمِ أسمائهم!.. في بقية التفاصيل؟ ينجح نوفل وصُهيب ويعود خائبا شْعيبة ووْلد اليَزيدْ!..
نعم، أضاعوني/ أضاعونا لم تكن مُجرَّد عنوان عابر لخربشات منسيّ احترق، كما احترق كثيرون معه، كثيرون قبله، وآخرون بعده بلا شكّ، بنيران الإقصاء والتمييز والتخلي.. صرخةُ صنف آخرَ من المُعطـَّلين هي “أضاعوني”، في بلد يُعطـِّل فيه مُعطـِّلون كُثر مُعطـَّلين كثرا.
“أضاعونا”، لكنْ ما استسلمنا لكسل المُظاهَرات والمُطالَبات اليومية، المكرورة، بعيدا عن حَرّ الواقع، عن صقيع الحقيقة.
شرطٌ واحد لي، لك، له ولنا الحقّ في فرضه على الحكومة (أياً كانت هويتها أو مرجعيتها): ضمان شفافية ظروف إجراء المباراة ووضوح معايير النجاح وموضوعية الاختيار. هي كلّ ما يجب أن تتجرّأ عليه مطالبُنا، نحْنُ مُعطَّلي هذا الوطن، ضدّاً عن كلّ تطلعات السّنوات وسهر الليالي.
كثيرون نحن، مثلكم تماماً، كما تخرّجتم من الجامعات تخرّجْنا. حُزْنا دبلومات الدّولة وأوسمة التميّز والتفوق في مختلَف مراحل الدّراسة؛ لكننا لم نساومْ، يوماً، هذه البلاد أو ابتززناها، فقط لأنها علّمتنا ومنحتْنا شواهدَ إثباتٍ لتَميّزِنا ودخولِنا مصافّ “القارْيينْ”.
