عبد الرزاق بوتمزار

 

ح. 94

وداعاً جْحا الدّار..

 

عندما دخلتُ مكتبه، في صباح ذلك اليوم، وأخبرته بأنّني أنوي المُغادَرة صُدم؛ لم يُصدّقْ ما سمع. أشعل سيجارة أولى، فثانية. بدأ يتكلم. سمعتُ، لكنْ دون أدنى انتباه. صراخه فقط كان يُسمَع في الغرفة المُغلقة. حاولتُ أن أشغلَ تفكيري بأيّ موضوع آخر كي لا أسمع أيّاً من كلماته الصّاخبة الحمقى. ولكي أغيظه أكثر قلتُ له، ضارباً على مكتبه، وأنا أنظر في عينيه مُباشَرة:
-اسمح لي بأن أقول لك إنك لا تتحاور، أنتَ تصرُخ فقط! إنّ الصّوت المُرتفع ليس مُستحَبّاً في نقاش مثل هذا.. ثمّ ماذا تظنّ نفسَك فاعلاً بصراخك الحادّ، أن تُخيفني فأقول: عذراً، لم أعد أريد أن أغادر!؟.. لا، يا سيدي، صرختَ أو تحدّثتَ بهدوء فهذا لن يُغيّر قراري؛ أنا مغادر!

بعد كلامي أخذ يكحّ ويكحّ إلى أن كاد قلبه يتوقف. ظللتُ بارداً ومُحايداً. لقد قلتُ ما يكفي. من مجلسي في الكرسيّ المُقابل له، تصنّعتُ عدم الاهتمام لنوبة الكحّة الطويلة التي انتابتْه. قام مُسرعاً نحو الباب. نادى الشّريفْ بأعلى صوته. ظهر الأخيرُ من القسم التقني. دعاه إلى مُجالستنا دون كلمات وعاد إلى كرسيه. راح يتطلع، بعينيه البُوميتَيْن، إلى الشّريفْ عله يُنقِذه، كما عادته، من هذه الورطة الإضافية. كان الأخير على علم مُسبَق برغبتي الأكيدة في المُغادَرة. خذله هذه المرّة؛ لم يكن لديه كثيرٌ ممّا يمكن أن يقول أو يفعل أمام إصراري.

تركتهما وخرجتُ إلى القسم المُجاور. استقبلوني بأسئلتهم وتعليقاتهم. قال حْمّادي إنه (يقصد جحا) لا يُحبّذ هذه الطريقة: أن يُفاتحَه أحد المُستخدَمين في موضوع المُغادَرة.
-أحَبَّ، دوماً، أن يكون هو مَن يقترح فكرة فضّ الشّراكة. لا شكّ في أنك صدمته بمُقترَحك؛ لم أسمعه يوما يصرخ بهذه الكيفية. ماذا دار بينكما؟..

التحق الشّريفْ، بعد لحظات، بمجلسنا وحاول أن يجعلني أعيد النظر في قراري، وإنْ كان يعلم أنّني قد حسمتُ الأمر تماماً. تركتهم يخوضون في موضوع مُغادَرتي وفراقَهم بعد أن ألفوا حضوري بينهم وألِفتُ، ونزلتُ الأدراج. عانقتُ هواء الشّارع النقيّ. الشّارعُ أرحبُ وأنسبُ لحالمٍ مثلي.

عدتُ، أياماً بعد ذلك، وودّعتُ الجميع. حتى العقد الذي كان بيننا لم أهتمَّ لمصيره. فلْيستمرَّ في استغلاله وابتزاز وكالة التّشغيل بالخمسمائة درهم. قد تُفيده -المسكينَ- في قضاء بعض حوائج يومه. ما أبشعَ العيش بأفكارٍ ديناصورية. قلتُ لي، وأنا ألقي، في ذلك الصّباح، نظرة الوداع على مكتب جْحا، المُتجهّمِ مثل وجهه الذميم.

مكتوب على حلمك أن يُؤجَّل، مرّة أخرى. اذرعْ شوارع الرّباط، جيئة وذهاباً، قبل أن تُغادرها. مُتْ، حسرة أو غيظاً على حظوظك العاثرة منذ أزَل. هؤلاء نحن وهذا واقعُنا؛ اقبله وانخرط في منظومته أو ارحلْ بعيداً؛ أرضُ الله واسعة!
لم أشعر بخطواتي وهي تزداد اتّساعاً وسرعة وأنا أذرع شارع محمد الخامس. ثمّة مُحتجّون، كما العادة، أمام القبّة. آهٍ، لو تدرون، مَعشرَ المُحتجّين، كم هي كثيرة الأمور الدّاعية إلى الاحتجاج في البلد، لولا أنّ كثيرين لا يحتجّون!

رغم أنه لم يكنْ سهلَ الإقناع بفكرة مُغادرتي الرّباط نهائيا، لم يُبدِ شقيقي اعتراضاً على ترْكي دارَ النشر. لم يترك لديه جْحا انطباعا جيداً حين التقاه للمرّة الأولى والأخيرة؛ بيد أنه كان أكثرَ إصرارا عليّ في عدم ترك العاصمة إلى غير رجعة. لم يكن أمامي خيارٌ عدا ذلك، لو تدري، فاعذرني، رجاءً.
وغادرتُ العاصمة عائداً إلى دفءالجنوب وعطالته.

كانت قويةً صدمةُ الدّار. كمّدْها، كما كثيرات مثلها، وواصلْ سيرَك نحو مجهول المصاير في بلاد لا تلقي كبيرَ بالٍ لأحلام مُتعلميها، قلتُ لي. تأبّطْ شهادتيك الجامعيتين وعدْ أدراجك نحو مدينتك، إلى الجنوب. هناك، ابحث لك عن لقمةٍ بطعمٍ آخرَ لن يكون، على كلّ حال، بالحلاوة التي تتوقع أو تتوهّم.
لم أفعل شيئاً طَوال أيام وشهور. ماذا يمكن شخصاً مثلي أن يفعل في مدينة مثل مُرّاكش وليس في العاصمة نفسِها عملٌ لي أستطيع أن أكسب منه أكثرَ من ألف وثلاثمائة درهم عند انقضاء كلّ شهر من تَمّارة؟!

عاد الفراغ يستبدّ بالأفق؛ لكنْ شتانَ بين تزجية الوقت في الخمول والتشمّس وبين تمضيته في إفناء الذات من أجل لا شيء، من أجل لا أحد! الكسلُ أرحمُ بي من العملِ لأجل لا شيء، خُصوصاً حيث يُفترَض أنْ تُصنَع ثقافة!

هلْ فهمتَ الآن أيّها البهلول؛ رحتُ أسألني؛ لماذا تتواعد كلّ تلك الأعداد من المُعطـَّلين أمام بناية البرلمان للاحتجاج؟ لأنْ عَدا خْدمة مْع الدّولة لا عملَ يمْكنُ أن يجعل أيَّ خريج جامعة مُحترَماً يشعر بتوفر الظروف والأجواء المثالية التي في خياله وفي خيالك. عدا مصير العطالة، لا يكون أمام خرّيج الجامعة أو غيرِ خرّيجها -في الغالب- سوى القطاع الخاصّ مصيرا محتوماً. وحين تقودك أقدارُك المنحوسة إلى القطاع الخاصّ، ففي رجبَ قد ترى العجبَ وفي غيرِ رجَبْ! ولا تكنْ حالِماً، كعادتك، وتُوهم نفسك بأنّ القطاعَ “يُرحّب بالكفاءات ويسمح للطاقات بالتفجّر ويساعد خرّيجي الجامعات والمعاهد العليا على الاندماج في وسط الشّغل” وهلمّ شعارات للاستهلاك والاجترار؛ إنْ هي إلا معزوفاتٌ ومحفوظات عفا عنها الزّمن منذ زمان!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *