عبد الرزاق بوتمزار
ح. 62
نهايةٌ سعيدة لمُغامَرة حزينة
أمضينا وقتاً طويلا ونحن نستمع إلى حكاية رسّامِنا، الذي استطاع، بطريقته الخاصّة والمُدهِشة، اللحاقَ بنا في طرابلس. ورغم أنه وصل متأخرا بيوم كامل وخاويَ الوفاض، بعد أن نسيّ لوحاته التي كان من المُفترَض أن يُشارك بها في معرض اللوحات التّشكيلية، فقد رحّبنا كثيراً بمَقدَمه، خُصوصاً رشيد وأنا، بحكم أنه كانت قد ربطتْ بيننا صداقةٌ جميلةٌ على امتداد الأيام التي أمضيناها في إعدادِ الوثائق اللازمة للسّفر نحو المُسابقة، التي نظّمتها جامعة ناصر خلال ذلك الصّيف البعيد من نهاية القرن الماضي، أو بداية القرن الجديد، لا فرق.
كان محمد يُضفي جواً من المرح على وُجودنا في عاصمة العقيد. يُحوّل كلّ الأوقات إلى لحظات للتهكّم والمزاح، خُصوصاً أنه قد أضاع لوحاته وأضحى بدون مَهمّة رسمية، كما كنّا نقول له كي نُغيظه وندفعَه إلى إطلاق أحد تعليقاته البذيئة، التي لا يكاد سيلها ينقطع.
قبل أن ننام في تلك الليلة، تابع محمّد، يشرح لنا محنته في سبيل العثور على الفندق الذي كنّا نقيم فيه:
-عندما لمستُ لدى فردَيْن من عناصر الأمن رغبة في مساعدتي، قلتُ لنفسي هذه فرصتي التي لا يجب أن أفوّتها. في البداية، حاول البوليسيان أن يَعرفا مني أكبرَ قدْر من المعلومات التي يمكن أن تساعدهما في إيجاد حلّ لورطتي. لم تنفعهما المعلومات التي كانت لديّ كثيراً. فأنا لم أكن أعرف أكثرَ من أنّ هناك زملاءَ لي من المغرب في أحد فنادق طرابلس ضمن بعثة ثقافية؛ وَهُما لم تكنْ لديهما أدنى فكرة عن هذه المُسابَقة الثقافية! أمام هذا الإشكال، كادا يَتخلَّيان عني ويتركاني لشأني، لولا إلحاحي وإمطاري إياهما بكلّ كلمات الاستجداء والاستعطاف التي في جعبتي..
ثم، فجأة، أخرَج أحدهما ورقة من جيب معطفه وركّب رقماً وشرع يتحدّث إلى شخصٍ ما، استنتجتُ أنه مسؤولُ استقبال في أحد الفنادق. لم ينفعه الشّخص على الطرف الآخر للخط في شيء عدا أنه زوّده برقم فندق آخر. وما زاد الطينَ بلة هو أنه لم تكن لديّ أدنى فكرة عن اسم الفندق أو موقعه أو تصنيفه. كان جميع مَن يتصلان بهم يُخبرونهما بأنْ ليس ضمن قائمة زبائنهم نزلاء من النوع الذي يسألان عنه. ورغم أنّ حالي كانت يبعث على الشّفقة أكثرَ من حالهما، فقد أشفقتُ عليهما. كانا بعد إنهاء كلّ مُكالمة يتبادلان نظرةً خاصّة أفهم منها في كلّ مرّة أنْ لا جدوى من الاستمرار في إضاعة مزيد من الوقت والجهد في إجراء اتصالات إضافية. وقبل أن يُرَكّب أحدهما الرّقم الرّابح أخبراني بأنّ تلك ستكون آخر مكالمة يُجريانها من أجلي..
خفق قلبي واسودّت أمامي الرّؤية. ماذا يكون مصيري لو أنهما فشلا في الخروج بنتيجة، خُصوصاً وليس في جيبي سوى مائة درهم لن تُسمنَ ولن تُغنيَ من جوع أو شراب أو مبيت في مدينة لا أعرف فيها أحداً؟! لكنّ الحظ وقف إلى جانبي. تهلّلَ وجه الأواكسي وانفرج وجهُه عن ابتسامة عريضة؛ أدركتُ أنّ الفرجَ قد جاء. وضع السّماعة والتفتَ إليّ: “لا شكّ في أنك محظوظ للغاية؛ لقد عثرنا على الفندق الذي ينزل فيه أصدقاؤك”..
عانقتُ الرّجلين، وأنا أشكرهما على جميلهما ومجهودهما الذي بذلاه من أجل إخراجي من ورطتي الغبيّة التي وضعتُ فيها نفسي بإصراري على الحضور إلى هنا. فوق كلّ ما فعلاه، تكفّلَ الرّجلان بمُرافقتي حتى الفندق، بل ودفعا ثمن سيارة الأجرة التي أقلّتنا حتى هنا!
تطلّعَ إلينا، يقيس درجة انتباهنا ومُتابعتِنا حكايتَه الغريبة، قبل أن يخبط ظهر أقربِ واحد منّا إليه بضربة من كفه الثقيلة، وهو يتابع:
-وهكذا، التحقتُ بكم، يا أولاد الْـ… الكلابْ، بعد مغامرة مُثيرة ليتني ما كنتُ دخلتُ غمارَها أصلاً..
