عبد الرزاق بوتمزار

ح. 61

غريبٌ في طرابلس..

في الوقت الذي كنّا على متن الطائرة التّونسية التي أقلّتنا من الدّار البيضاء إلى تونس كان محمد، الرّسام، يتدبّر أمرَه في “محمد الخامس” كي يجد مخرجاً من ورطته بعد أن تأخّر عن موعد الإقلاع. استطاع، في الأخير، أن يُقنع مسؤولي المطار بأنْ يحجزوا له مقعدا في الرّحلة الموالية نحو تونس.

وبعدما أوصلته الطائرة، في اليوم الموالي، إلى مطار تونس -قرطاج، تُرِك لوحده هناك يُواجه مصيره.

-لم يكنْ أمامي من خيار آخرَ سوى السّفر عبر الطريق البريّة.
حكى لنا “الغْليظْ”، في ما بعد، وهو يسترجع أنفاسَه، مُواصِلا سرد فصول محنته:
-عندما وجدتُ أصحابَ التاكسيات الذين يُؤمّنون العبورَ بين المدينتين، اتخذتُ لي مجلسا بين المسافِرين في الناقلة دون أن أعرف حتى ثمنَ الرّحلة. وبعد ساعات، وأنا محشور بين أشخاصٍ أربعة، معظمُهم غلاظ مثلي، وفي وضعية جلوس غيرِ مُريحة بتاتاً، توَقّف السّائقُ، أخيراً، وفتح باب سيارته، مُعلناً للجميع: وصلنا..

وجدتُ صعوبةً كبيرة في استعادة الإحساس بأطرافي، خُصوصاً رجلَيّ، اللـّتين تَخشّبتا بسبب طول المسافة. كنتُ، أيضا، في حالة نفسية وبدنية مُزرية جدّا. تفرّقَ مزاجي الرّائق على كيلومترات الرّحلة وشرد ذهني، لا أفكر إلا في اللوحات التي نسيتُ على متن الطائرة.

يتوقف بين حين وآخر، بين تعليق وتعليق، ثمّ يُتابع، وهو يحدج مَن يُقاطعه منا بنظرات شرّيرة:
-اللوحاتُ التي كان مُفترَضً أن أشارك بها في هذه المُسابَقة الـ… (يُطلق وصفَه البذيء ونحن نتطلع إلى بقية القصة وضحكاتُنا تهُزّ أركان الغرفة حيث تحلّقْنا حوله وكلنا فضول لسماع ملحمة هذا الدّبّوز الرّائع والظريف).
-سائقُ التاكسي لم يفهمْ ما يجري وأنا أُنزِل حقيبتي من الصّندوق الخلفي للسيارة وأرمي في وجهه بالـ400 درهم.. حاول أن يصرُخ في وجهي ليُذكّرَني بأنّ ثمنَ الرّحلة خمسمائة درهم، وليس أربعمائة.. لكنْ بنظرة مني، وأنا على ما كنتُ فيه من الغيظ والحَنَق، تَراجَعَ إلى الخلف، مذعورا. لا شكّ في أنّ مُقارَنةً بسيطةً منه بين جُثتي وجسده النحيل لم تُشجّعه على الاستمرار في مُطالبتي ببقية مبلغ الرّحلة المنحوسة، خُصوصا بعد أن تَفرّقَ بقية المُسافرين من حولنا.

يصمت قليلا، وقد تعالتْ ضحكاتنا ونحن نتخيّل موقفه. يتابع، فجأة، وهو ينزل بكفّه الثقيلة على كتف رشيد، الغارق في ضحك مُتواصل:
-في إحدى اللحظات، والسّائقُ مُتسمّر في مكانه، مُرتجفا من نظراتي وأوراقي النقديةُ بين يديه، وسْوسَ لي شيطاني أنْ أنتزع منه المبلغَ وأطلق ساقَي للريح. لكنّ خوفي من توريط نفسي في مشكلة إضافية في هذه الأرض، التي لا أعرف فيها أحدا أو مكانا، جعلني ألعن شيطاني وأصرف النظر عن فكرة سلب السّائق المسكين نقودَه؛ وإن كنتُ، في الحقيقة، أكبرَ مسكين في تلك اللحظة فوق تراب الجماهيرية كلها.. بعد أن دفعتُ الأربعمائة درهم، العزيزة على قلبي، لم يبقَ في جيبي سوى مائة درهم وقليل من الصّرْف. فوق هذا، لم أكنْ أعرف أين أولي وجهي في هذه الأرض الغريبة.

يتوقف عن الكلام. يلهث، ببدنه المُشحّم؛ يَجُول بناظرَيْه في أرجاء الغرفة الفسيحة ثم يتابع:
-كان كلّ هذا يحدث لي في الوقت الذي كنتم، أنتم أوْلادْ الـْ… تستمتعون، مُجتمعين، برحلتكم وتعيشون تفاصيلَ أخرى مُخالفة تماما لما كان يحدُث معي.. جرجرتُ قدميّ، المنهكَتيْن، في اتّجاه المجهول، وأنا لا أعرف ما يكون من أمري… قادتني إلى ساحة وسط المدينة، مُكتظة بالناس. ثم، فجأة عنّ لي أن أسأل عن دائرة للأمن. هناك، على الأقلّ بوسعي أن أكون في أمان من كلّ تلك النظرات من حولي، والتي بدت لي، لسبب ما، مُستطلعةً وفضولية أكثرَ من اللازم. ولسبب غامض، استبدّ بي هاجسٌ أوحى لي بأنّ أصحابَ تلك النظرات المُتفرّسة كُلَّهم يُضمرون لي سوءا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *