عبد الرزاق بوتمزار
ح. 57
في الطريق إلى الجماهيرية..
بالموازاة مع الدّراسة، كانت لديّ، دوماً، انشغالات وهوايات أزجي بها أوقاتَ الفراغ؛ ومنها عشقي الأول والأبدي: الكتابة.
عشيةَ أحد آخر أيام السّنة الأولى من دراستي الجامعية في كلية آداب الرّباط، صادفتُ إعلاناً يدعو طلابَ المعاهد العليا والجامعات العربية إلى المُشارِكة في مُسابَقة تنظمها جامعة ناصر “الأممية” في ليبيا. كنتُ رفقةَ حمّادي والمختار حين وقعتْ أعيننا على الإعلان. ولأنّي كثيراً ما كنت “أشعر” عليهما كلما وجدتُ إلى ذلك مساحة بين إحدى الحصص أو في جلساتِ سَمر خاصة، على قلتها، فقد أصرّا على أن أتقدّم إلى المُسابَقة مع المُتقدّمين.
صادف الأمرُ استعداداً في نفسي. كنتُ قد حصلتُ، قبل مدّة قصيرة، على الجائزة الأولى في مُسابَقة نظمتها جمعية محلية في الرّباط؛ فقلتُ لنفسي لمَ لا أجرّب حظي وأتقدّم إلى “المُسابَقة الأدبية” ولو كان تنظيمُها في دولة العقيد؟! شجّعني، أيضاً، أنّي كنتُ قد حصلتُ، قبل أيام فقط، على جواز سفر وأردتُ أن “أطبعه” في أقرب وقت ولو بطابع جمارك بلد غرائبيّ من صنف الجماهيرية.. اخترتُ بعض نصوصي القصصية وأرفقتها بملفّ وأودعتُ الكلَّ لدى مصالح القسم الذي يُمثل بلاد عمر المختار في العاصمة الإدارية للمملكة.
مرّتْ أيام.. وفي الوقت الذي بدأتُ أنسى أمرَ ترشّحي للمُسابَقة الأدبية الليبية، وصلتني دعوة رسمية إلى مُراجَعة مصالح التمثيلية الليبية؛ في طريق زعير بالرّباط.
كانت “الشّاعر وإكليل الموت” واحدة من ثلاث قصص أرفقتها بملف الترشّح للمُسابَقة الأدبية الليبية. القصّتان الأخريان هما “أمّ ياسر” الشّهيد و”مُحاكَمة”. كان مطلوباً منّا أن نتقدّم بثلاث قصص على أساس أن تتولى اللجنة المشرفة على المُسابَقة اختيار واحدة منها فقط يدخل بها المُشارِك دائرة التنافس.
بعد استيفاء الإجراءات الإدارية حدّدوا لنا موعداً للسفر إلى جماهيرية مْعمّر. كنتُ قد أنهيتُ للتو موسمي الدّراسي الأولَ في جامعة محمد الخامس. وفي اليوم المحدد للسّفر، جمعتُ بعض الملابس والأغراض وحزمتُها في حقيبة استعرتُها من شقيقي؛ ارتديتُ أجمل ما أملك من ثياب وغادرتُ في اتّجاه مطار محمد الخامس في الدّار البيضاء.
كان الأمر الوحيد الذي ظللتُ أفكر فيه هو لحظة ركوب الطائرة!.. كنتُ أصاب بالدّوار لمُجرَّد إطلالةٍ من سطحِ بناية عالية فما بالُكم بركوب طائرة والتحليق في أجواء الله الواسعة!؟ في إحدى اللحظات، فكرتُ، جدّيا، في التخلي عن هذا السّفر بسبب حكاية الطيران هذه بالتّحديد.
أمضى معي شقيقي، الذي كان يسافر كثيراً بحكم طبيعة عمله، أوقاتاً مُتقطعة وهو يحاول إقناعي بأنّ المسألة عادية وأنْ لا داعي إلى الخوف.. “أمرٌ واحد أريدك أن تتذكّره هو لحظة إقلاع الطائرة؛ سيُخيَّل إليك كما لو أنّ الطائرة في طريقها إلى السّقوط، قبل أن تتّخذ مسارها الصّحيح وتعودَ الأمور إلى طبيعتها”.. هكذا ردّد مراراً في أحاديثنا حول الموضوع. لم أستطع أن أشرح له خوفي المرَضيّ من الأماكن المُرتفِعة، فاستسلمتُ لقدَري وقلتُ لنفسي “اللّي ليها ليها”؛ والتحقتُ ببقية أفراد البعثة الطلابية في هذه المُسابَقة المحفوفة بالمخاطر.
كنتُ قد تعرّفتُ بقية عناصر الوفد، بحكم أننا ظللنا لأيام نلتقي في تمثيلية الجماهيرية في الرّباط لإعداد بعض الوثائق وملفّات المُشارِكة. كان من بين هؤلاء شابّ يدعى رشيد، من سلا؛ ولسببٍ ما، صار الأقربَ إليّ من ضمن البقية. ولأنّي لم أكن أجيد كثيراً فنَّ “سْدّ فمّكْ” فقد أسررْتُ إليه بأمر “الفوبيا” المُزمِنة التي أعاني منها تجاه “العلو”.
بعد صعودنا إلى الطائرة، اختار رشيد الجلوس إلى جواري، وهو يُوجّه لي دعاباته وتعليقاته السّاخرة. سَرَت الهمساتُ بين أفراد المجموعة، بعد أن نقل إليهم رشيد هذه المعلومة الخاصّة عني. حوّل الجميعُ أنظارهم إليّ، وهم يُعاينون حالة الرّعب التي انتابتني.
قبل الإقلاع، ظهرت أمامنا إحدى المضيفات وشرعت تشرح لنا كيفية استعمال صدرية النّجدة وطريقة الولوج إلى باب الإغاثة، “إذا لم تسِر الأمور على أحسن ما يرام”!.. كان كلام المُضيفة، وهي تشرح لنا تلك الحيثيات الغبيّة، بمثابة الضّربة القاضية لحالتي النفسية، خُصوصاً وهي تُنهي كلامها بتلك الجملة المُرعبة..
ثمّ، فجأة، تحرّكتْ عجلات الدابّة الفولاذية العملاقة. سارت على الأرض لمسافة مُحدَّدة قبل أن نُحسّ بوضعية أجسادنا تتغيّر؛ استقامتْ أجسامُنا وانشدّت رغم أنفنا إلى مؤخّرة كراسينا وارتفعت رؤوسُنا، لندرك أنّ الطائرة قد بدأت التحليق في الأجواء..
ظلّ رشيد، الذي كان يجلس قرب نافذة زجاجية صغيرة، يتابع تحرّكات الطائرة ويدعوني، شامتاً، إلى أن أفتح عينيّ قليلاً وأستمتع بلحظة الإقلاع. لم أتخلص من الرّعبٍ الذي سكنني إلا بعد أن استوت الناقلة في خط أفقيّ وبدأت التعليقات والضّحكات تصدُر عن الآخرين.
بيد أنّ الأفظعَ كان ينتظرني بعد التوقف في مطار تونس -قرطاج.. هناك، كان علينا أن نستبدل الطائرة التونسية التي أقلتنا من الدّار البيضاء إلى تونس العاصمة ونركب طائرة ليبية تُوصلنا إلى طرابلس.. أين أنتَ يا هتشكوك!؟
