عبد الرزاق بوتمزار

 

ح. 56

مُراهَقةٌ رغم أنف السّنين..

أذكر، يوماً، ونحن في كلية الآداب في مُرّاكش، كيف ارتجّت أركانُ البناية تحت هدير الطلبة وقد نزلوا إلى ساحة المؤسَّسة للتنديد بتصابي أستاذ جامعي تَحرَّش بطالبة.. تعبّؤوا ليفضحوا مُراهَقة مُتأخّرة استفاقتْ، فجأة، لتستبدّ بحضرة الأستاذ، “المُحترَم”، الذي جاءته الطالبة باحثةً عن تأطيره وإرشاده فإذا به يخالها صيداً سهلا يستطيع، بفضل مركزه وسلطته المعنوية، أن يحملها إلى سرير مُتعته المُتوهَّمة، بدل أن يُرافق خطواتها على مدارج العلم والتّكوين.

غادرتِ الطالبة مكتبه حانقةً وأسرّتْ بما تعرّضت له إلى زميلة، وهذه إلى أخرى، لتنتهيّ القصّة إلى أسماع فصائل الحرم الجامعيّ. كبرت حلقة الاستنكار وتحوّلتْ، بالتدريج، إلى مُظاهَرة عارمة عرّتْ حقيقةَ الأستاذ المُتصابي، الذي حمد الله كثيرا، ولا شكّ، لأنه استطاع الفرار بجلده من باب خلفيّ للكلية على متن سيارته، قبل أن تَطاله أيادي الطلبة في ذلك اليوم. كانت الأفواج الهادرة علّمته ما معنى أن يتحرّش ببنات المغاربة..

أتذكّر هذه الواقعةَ وغيرَها، وأنا أسترجع ما مرّ بي خلال السّنتين في جامعة محمد الخامس في الرّباط، حيث الدائرة ضيّقة جدّاً بالمُقارَنة مع كلّ أولئك الطلبة الذين جاورونا في مُدرَّجات القاضي عياض.

كان العدد القليل للطلبة والطالبات، زملاء الدّراسة في شوطها الرّباطيّ، يُتيح فرصةَ أكبر للتأمّل في حالات المُراهَقة المُستعادَة التي تستبدّ ببعض أساتذتنا “المُوقرين” وهم يتصابَون في تعاملهم مع طالبات. يقترفون، رغمَ أنفِ كهولتهم، تصرّفاتٍ تفضيليةً تجاه بنات حواء دوناً عن بقية بني آدم. كثيرا ما تبادلنا نظرات مُستنكرةً ونحن نُعاين مُمارَساتٍمفضوحةً مِن أشخاص شابُوا وما تابوا..

أن تمضي أياماً، فأسابيعَ وأشهراً فأعواماً، بين أناس في دائرة ضيّقة كحجرة درس أو بين دهاليز كلية خاوية إلا من بعض طلبة يُقرّبك كثيراً من هؤلاء أو يُبعدك عنهم تماماً.

يتوقف الخياران على درجة سرَيان تيار التواصل بين طرفَي المُعادَلة وعلى مدى استعدادهما للتّفاعل والتعاطي مع بعضهما، ووفقَ ضوابط ذلك التعامل وشروطه وحيثيّاته.
شخصياً، كانت لديّ دوافعي وخلفياتي الثابتة في التعامل مع أيّ شخص أو مجموعة. احترمتُ أساتذتي، دوماً، بطريقتي الخاصّة، التلقائية والبعيدة عن كلّ مساحيقِ المُبالَغة أو النفاق لغرَضٍ من بين أغراض؛ لكنْ عندما يظهر في تصرّفات واحدٍ من هؤلاء الأساتذة ما ينمّ عن خلفيات غرائزية في التعامل فإنّي أصير على استعداد للتخلي عن كلّ طقوس الاحترام. أنقلب إلى مرآة عاكسة لنقيضِ ما ينتظر مني الأستاذ أن أُظهر له من واجب عدم الاعتراض أو حتى الامتعاض من تصرّف مُشين منه أو خطوة غير محسوبة.

يؤسف المرءَ، كثيراً، أنّ هناك أموراً أخرى غيرَ الكفاءة والقدرة على العطاء والتّواصل والفهم تتحكّم في علاقات بعضنا بالبعض، في مجتمع يعاني اختلالاتٍ ومُفارَقات تُعرّي البونَ الشّاسعَ لدينا بين النظرية والمُمارَسة اليومية. يحُزّ في نفسي كثيراً أن أتحدّثَ عن هذا الموضوع في هذه اليوميات، لأنّني أفضّل أن يتكرّس عن رجُل التعليم ذلك التـّشبيهُ البليغ الذي رفعه به أحمد شوقي إلى مصاف الرّسُل.. لكنّ “نماذجَ” من هؤلاء يأبَون إلا دفعي إلى مُخالَفة ما ذهب إليه أمير الشّعراء وأنا أتحدث عنهم؛ وإن ظلـّوا، لحسن الحظ، مُجرَّد حالات شاذة لا يُعتـَدّ بها.

مع كلّ الأحكام المُسبَقة التي لدى الكثيرات الاستعدادُ لأن يُصْدرْنها في حق جميع من يقترب من دائرة أنوثتهنّ، التي حظيت في سنواتنا الأخيرة بالكثير من الامتيازات وحققت العديد من الاستحقاقات؛ لا يسعني، رغم ذلك، إلا المُغامَرة بالاقتراب، ما أمكنني ذلك، من دائرة هذه الأنوثة، التي سعى بعضُ الذكور، وسيسعون دوماً، إلى الإساءة إليها ويَظهرون كمَن يُصلحون. يتقمّصون دور المُدافعين عن المرأة بينما هم، في الحقيقة، يُسيئون. آخرون يُلحقون الضّررَ بها بنفاقهم ومَواقفهم المُجامِلة، المُتملـِّقة؛ وسائلُ متضاربة لكنّ الأهداف تتطابَق.

من بين أكثر هؤلاء المُتربِّصين (بعض) رجال التعليم، هم الأكثرُ احتكاكاً ببنات المغاربة. فمن الفقيهْ (في حالة مُرورها من مسجده في مهد تجربتها الدّراسية) إلى المُعلّم، فالأستاذ، فالأستاذ الجامعي.. تنتقل الفتاة من مُرَبٍّ إلى آخرَ في مشوارها الدّراسي. وإذا كان من البديهيّ ألا نُفوّت هذه الفرصةَ دون الوقوف إجلالاً لمعلّم كاد أن يكون رسولاً؛ فإنّ بعض رجال التعليم لا يستحقون منا، في الواقع، أيَّ نوع من الوقفات، ما عدا وقفات الاحتجاج والتنديد والفضح..
على امتداد مشوارنا الدّراسي، احتككنا بحالات من هذا النوع من الأساتذة والمُعلمين. أطلقنا عليهم صفاتٍ ونعوتاً صارت معروفة بيننا. كلّ هذا كان يبدو، رغم ذلك، أمراً قابلاً للتّجاوز، بحُكم أنّ القليلين فقط منهم كانوا مُصابين بداء التّصابي على تلميذاتهم وطالباتهم. لكنّ بعض المعلمين يخرجون عن السّطر عندما يُصرّون على مُمارَسة مُراهَقتهم المُتأخّرة أكثرَ من اللازم.

مسكينٌ أنت أيّها الزّمن المُتكلّس، بالنسبة إلى البعض، عند حدود الأطراف السّفلية وما جاوَر!..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *