عبد الرزاق بوتمزار
ح. 52
عِجازة ثانية..
كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد الخامس -أكدال، الرّباط.. باب الرّواح، باب الحْدّ، السّويقة، حسان: الضّريح والسّاحة وبُورْكراك، شالة، بابْ لْمريسة، تابْريكتْ، والجوار..
أفادني، كثيرا أنْ كان لي سابقُ معرفة بمعظم أحياء العدوتين وشوارعهما، خُصوصا الرّباط. كان أخي الذي سأقيم لديه خلال سنتَي الدّراسة يقطن بحيّ الفتح، في الجهة الثانية للمدينة.
كنتُ أركب الحافلة رقم 52 في اتّجاه باب الرّواح لأواظب على حضور دروس جديدة تحضيرا للحصول على إجازة مُطبَّقة في علوم وتقنيات الكتاب.. (آشْ دّاني لْشي إجازة أخرى؟ آشْ قضيتْ بْالأولى نقضيه بالثانية!؟).. حاولتُ أنْ أطرد هذه الأفكار عن نفسي، الأمّارة بـ”السّليتْ” وارتياد الزّوايا البعيدة. كبحتُ إلحاحَ العادة السيّئة: الانزواء وإعمالِ فكرٍ وشُرود دائم في تأمّلات وأفكار وحالات.
الإجازة في علوم وتقنيات الكتاب (L’Écrit) تعني، ضمن ما تعني، قياما مُبكّرا من الفراش الدّافئ وانتظارَ الحافلة في صباحات الرّباط الباردة. تعني الجلوسَ أمام الأستاذ على امتداد ساعتين مُتواصلتين وفي حيّز مكانيّ ضيّق: حجرة صغيرة في أحد طوابق ملحقة كلية الآداب، في بابْ الرّواحْ. كنّا تسعة طلبة فقط في السّنة الأولى، ثمّ ثمانية في السّنة الثانية، بعد أن ابتسمت “الگرينْ كارْدْ” لرشدي وفتحتْ له حدود ماريكانْ.
ما ميّز العامين اللذين أمضينا في درب نيل الإجازة التطبيقية أننا كنّا قلائلَ إلى درجة أننا أضحينا بسرعة عائلة مُصغَّرة. ثلاثَ طالبات وخمسة طلبة كنّا، لا غير. كانت هناك بهيجة والسّعدية من الرّباط وحنان من القصر الكبير ورشدي والمختار من سلا وعبد العالي من القنيطرة وحمّادي من وجدة والحسين “الحامْض” من خريبكة. أساتذتنا، أيضا، كانوا معدودين على رؤوس الأصابع.
كانت الموادّ الرّئيسية للإجازة المُطبَّقة تُدرَّس باللغة الفرنسية، مرجعِ رئيس الشّعبة، الذي كان قد نال دكتوراه من إحدى جامعات فرنسا في تخصّص علوم الكتاب. كان ذلك فرصةً مُواتية لنختبر مداركنا ودرجة استيعابنا لغةَ موليير، نحن القادمين من شُعَب وتخصّصات مُختلفة.
كان رشدي مُجازاً في الأدب الإنجليزي وعبد العالي في الأدب الفرنسي وحمّادي كان خرّيجَ علوم سياسية والسّعدية خرّيجةَ دراسات إسلامية. حنان مُجازةً، مثلي، في الأدب العربي، وهلمّ شُعَبا وتخصّصات.
المختار كان الوحيدَ بيننا الذي لم يحصل على الإجازة في تخصّصه، الأدب الإنجليزي. اضطرّ إلى الانقطاع بعد حصوله على شهادة الدّروس الجامعية (DEUG) للالتحاق بوظيفة في أحد المعاهد. وكانت تلك الإجازة المُطبّقة، التي فتحتها جامعة محمّد الخامس في وجه الحاصلين على شهادة الدّروس الجامعية فما فوق، فرصتَه ليتدارك الموقفَ ويحصل على شهادة الإجازة، التي ستنفعه حتماً، يوما ما، ولو لتحسين وضعيته الإدارية، وذلك أضعفُ الاجتهاد والتّحصيل.
وسط تلك المجموعة الصّغيرة من الطلبة أمضيتُ سنتين إضافيتين من عمري مُطارِدا تلابيبَ معرفة “تقنية” في نظري الأدبي.
كثيرا ما راوَدني إحساسٌ بأنه كان أحرى لو لم أبذُل في سبيل هذا الشّوط الإضافي من الدراسة كلَّ تلك التضحيات، كلّ سهر الليالي والمُثابرةَ أياماً متواصلات، في كدّ وتحصيل انتهى بي إلى “حصلة” حقيقية في ما بعد.
