عبد الرزاق بوتمُزّار

ح. 4

مجنونُ الحكاية

في شأن بدايات ابتلائي بعشق الحكايا، تُعيدني لعبة التذكّر إلى أيامٍ بعيدة من مُراهَقتي الجامحة. كنتُ تلميذا في المرحلة الإعدادية وكانت الرّياضيات وما جاوَرها من الموادّ العلمية أبغضَ الحصص إلى نفسي وأثقلَها في جداول أزمنة السّنوات الطويلة التي قضيتُ في الإعدادي. أذكر أنّني كنتُ، في أحيان كثيرة وبُغية طرد جو الرّتابة القاتلة في مادّة “الماتيماتيكْ”، أعمَد إلى إخراج بعض القصص الباليّة من محفظتي المُهترئة وأبحر، في غفلة من الأستاذ، رفقة شخصيات، إلى عوالم السّرد العجيبة. كنتُ قد أقنعتُ نفسي بأنْ لا طائلَ يُرجى من التّركيز في حسابات الأستاذ، بجُذورها وكُسورها ومُعادَلاتها، التي كنتُ دوماً (ولا أزال) غيرَ قادر على فهْم جدْواها.

أحياناً أخرى، كنتُ ألجأ إلى حلول أكثرَ جرأة. كانت الإعدادية التي أدرُس فيها تقع في أقصى الحيّ؛ خلف أسوارها كان الفضاء مُمتدّا، خالياً وهادئاً. وبين كُرهي الرّياضيات ِوجاراتِها وحُبّي القصصَ والحكاياتِ، اكتشفتُ لعبة التغيّب عن الفصل. وبينما يكون أقراني يتتبّعون تَشابُكات مُعادَلاتٍ وألغازٍ رياضية، كنتُ أنا أنسلّ خلف الجُدران وأستغلّ سكينة المكان لأطارد نهاياتِ قصص لا تنتهي إلا لتبدأ أخرى..

لم يكن يهُمّني ما يتبع ذلك التغيّب من تقريع وضرب وتعنيف في البيت، أو حتى رفض إدارة المؤسَّسة السّماحَ لي باستئناف الدّراسة دون إحضار وليّ أمري؛ وما أدراك ما إحضارُ وليّ الأمر! كان آخرُ ما يمكن أن يطلبه الواحد منّا من والدي هو مُرافَقتنا إلى إدارة المؤسَّسة، خُصوصا إذا كان ذلك الأمر من أجل تبرير جنحة خطيرة من قبيل التّغيب عن فصول الدّراسة. كان أفدح ما يمكن أن يتصورَ الوالدُ حُدوثه من أحدنا هو التّقصير في أداء “واجب” التّعلم!

ولأنّني عاينتُ، مرارا، حصص التعذيب التي تَعرّضَ لها إخوتي على يديْه في حالات مُماثلة، فقد كان مُجرَّد تخيّلِ جسدي النّحيفَ بين يديه يُصيبني بالدّوخة وبفقدان الرّغبة في الحياة، على الأقلّ إلى أن ينتهي كابوس العقاب. كانت يداه من الخشونة والصّلابة إلى درجة أنّ أيَّ جزء طالتْه من جسدنا لا يُداويه إلا تعاقبُ أيام عديدة؛ لكنّ كلّ ذلك ما كان يزيدُني إلا كرها لتلك الموادّ المُقرِفة وحبّاً في دُنيا المحكيّ وتقاطعاته الآسِرة.

في سنوات الإعدادي المُوالية، ستتّسع دائرة الابتعاد عن حجُرات الدّرس لتشمل حصصا أخرى، مثل الطبيعيات والفيزياء؛ فقد قادتني قدماي، ذاتَ صدفة بعيدة، إلى عالَم آخرَ تتقمّص أدوارَ ساردي الحكايا فيه شخصياتٌ حيّة، تروي تفاصيل أبطال خارقين وغابِرين، بالصّوت والصّورة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *