عبد الرزاق بوتمزار

ح. 43


بُحوث التخرّج

بانتقالي إلى السّنة الرّابعة والأخيرة في مشوار الحصول على الإجازة المُبتغاة، لم يعد يفصلني الكثير عمّا بَعد الجامعة. صار شبح المصير المجهول يلُوح في الأفق غامضاً كتفاصيل الأحلام حيناً، واضحاً كلحظات الكوابيس الثقيلة أحياناً. لا يكاد الأمل يرسُم في المُخيلة حُدودَ مُستقبل واعد مأمول حتى يستبدّ اليأسُ بالأفق ويُطاردَ بقايا الصّور المخملية التي كنّا نرسمها في مُخيلاتنا لِما يُستقبَل من الأيام بعد تحوّز الشّهادة الجامعية. وضْعُ الأفواج التي سبقتنا إلى ذلك المَكسَب دون أن تتخلص من قيود العطالة يدفع أكثرَنا تفاؤلاً إلى الاستكانة، في الأخير، إلى كوابيس اليقظة، قبل مثيلاتها التي تتدثر بسواد الليل لتهجم على تطلعاتنا؛ ولو في أحلامنا المتباعدة.

على امتداد السّنوات الأربع، عشنا لحظاتٍ متناقضةً ومواقفَ صعبةً وواجهْنا ضغوطاً نفسيةً رهيبةً. صِرْنا كالأعداء، أحياناً، إزاء أجسادنا وعقولنا كذلك، خُصوصاً إبّان فترة الاستعداد للامتحانات. عشنا، أيضاً، مغامَرات على جميع الأصعدة وواجهنا أحداثاً ووقائعَ في الحياة الشّخية والجماعية. انقطع بعضنا ممّن وجدوا بدائلَ أخرى، من قبيل الالتحاق بوظيفة أو سفرٍ خارج البلاد، بعد فرَص لاحتْ لبعض المحظوظين منهم، بينما انقطع آخرون عن الدّراسة، ببساطة لأنهم لم يُوفقوا في قطع المشوار الجامعيّ بنجاح.

ما ميّز السّنة الأخيرةَ، أيضاً، تجربة إنجاز البحث الجامعيّ، التي يتعيّن، بموجبها، على كلّ طالب أن يُعدّ بحثاً للتخرّج، يتناول من خلاله ظاهرة أدبية أو يتصدّى لمفكر أو أديب أو تيار أدبيٍّ أو فكريّ أو فلسفيّ بالدّراسة والتحليل، وفق منهجيةٍ وضوابطَ أكاديمية مُتعارَف عليها؛ يسهر على تأطيره في ذلك الأستاذ المشرف على بحثه. ولأنّني كنتُ من المُصابين بـ”لعنة” المحكيّ فقد قرّرتُ، منذ زمن بعيد، أن أنجزَ بحثي عن أحد الرّوائيين الكبار وأعماله التي خلّفها. انتهى بي التّفكير إلى الرّوائي السّعودي عبد الرّحمان منيف. كان الإنتاج العبقريُّ لهذا الأديب، الكبير حقاً وليس تملّقاً أو زلفى أو لغرضٍ في نفسِ يعقوبَ وغير يعقوب؛ قد أسَرني، بعد اطّلاعي على معظم إبداعاته الرّوائية؛ بدءا من الأشجار واغتيال مرزوق وقصّة حبّ مجوسية؛ مُرورا بشرق المُتوسّط والنهايات، وحين تركنا الجسر، ثم سباق المسافات الطويلة وعالم بلا خرائط (مع جبرا إبراهيم جبرا) إلى خماسية مدن المل”، المُتعالية عن كلّ وصف.. ثمّ، لاحقاً التـّيه والأخدود وتقاسيم الليل والنهار والمنبت وغيرها من الأعمال الرّائدة، من قبيل بادية الظلمات والآن.. هنا (أو شرق المتوسط مرة أخرى) وثلاثية أرض السواد وأم النذور..

حين عرضتُ موضوع بحثي الجامعيّ المرتقب على الأستاذ عبد الجليل الأزدي كانت صدمتي كبيرة حين رفض اقتراحي الأوّلي رفضا باتّاً؛ ناصحاً إياي، في المقابل، رفقةَ مجموعة طلبة ممّن وقع اختيارُهم عليه ليشرف على بحوثهم، بأنْ نفكر في تناول أعمال مُبدعين مغاربةٍ محليين، عوض أدباء المشرق، الرّواد وغير الرّواد.. قطع علينا الأستاذ كلَّ تفكير في دراسة تجربةٍ إبداعية مشرقية بأنْ قال إنّ جميع المواضيع والعناوين التي اقترحناها عليه هي مواضيعُ استُهلِكت بكثرة في بحوث طلبة جامعيّين سابقين.
-إنّ هذه البحوثَ حول أدباء من المشرق لن تُفيدَكم ولن تُفيدَهم في شيء؛ لأنهم غير مُحتاجين إلى دراساتكم وأوراقكمالجامعية حول أعمالهم؛ بخلاف الرّوائيين والقاصّين والشّعراء والمسرحيّين المغاربة، الذين هناك نوعٌ من التنكّر الأكاديمي لهم ولأعمالهم من لدُن طلبة الجامعات المغربية وباحثيها!

ورغم تشبّثي الكبير بخيار الاشتغال على منتج عبد الرّحمان الروائي منيف وتحفّزي الشديد لإنجاز بحثي على مُنجَزه السّردي الفريد، فقد بدا لي تعليل الأستاذ المشرف منطقيا إلى حدّ ما. في النهاية، توافقنا، باقتراحٍ منه، على أن أتناول في بحثي الجامعيّ رواية البرزخ ذاتَها، التي سبق لي، سنةً من قبلُ، أن أعددتُ حولها ورقةً ضمن الأيام الدّراسية التي كانت الكلية قد نظّمتها على شرف عمر والقاضي، رجلِ التعليم في إحدى ثانويات الدّار البيضاء:

-هذا الرّوائي أحقّ بتعبك ودراستك من عبد الرّحمان مُنيف!

قال، مُحدِّداً لي تيمة صوت السّارد في الرّواية.

لم يكن السّارد في الرّواية سارداً واحدا، كان مجموعةً. تعدّدت أصوات السّارد(ين) على امتداد أسطر الحكي في تلك الرّواية، حديثة العهد بالصّدور حينها. وبما أنّني أعددتُ بحثي الجامعي سنة 1997 وأنّ الرّواية لم تصدر إلا سنة واحدة قبل ذلك التاريخ، فلم أكن لأطمع في مراجعَ أو مصادرَ “أقرأ” بمساعدتها برزخ عمر والقاضي. فوق ذلك، اقترح عليّ الأستاذ المشرف مرجعاً ترجَمه، رفقة أستاذين آخرين، من “وُجوه” جيرار جنيت ليكون مرجعي ومُنطلَقي لدراسة “البرزخ”.

كان خطاب الحكاية، إذن، مرجعي ومصدري الوحيدَ. كان اعتماد أحد أعمال الناقد الفرنسي جيرار جنيت مرجعاً لإعداد دراسة عن رواية مغربية حديثة الصّدور ينطوي على مُغامَرة محفوفة بمخاطر الإخفاق في الإحاطة بالعمل موضوعِ الدّراسة؛ كان صعباً اعتمادُ منهج كِتاب نقديّ خُصّص لقراءة أعمال أدباء فرنسيين وغربيين سابقين لعصرنا وإسقاطُ نظرياته على عمل روائيّ مغربيّ كُتِب في مجتمع غير المجتمع الفرنسيّ ولقرّاءٍ في غيرِ بيئة فرنسا ولا الغرب.

عدَا ذلك المرجع المُترجَم ودراسةٍ يتيمة كانت قد تناولت البرزخ، نُشِرت في إحدى الجرائد الوطنية، لم يكن مُتوفـّراً، إذن، مرجعٌ آخر أستطيع التعويل عليه لإنجاز بحثي الجامعيّ، بحثِ التخرّج.

انتهيتُ، في آخر المطاف، بعد كثيرٍ من التّحرير وإعادة التّحرير، وبعد تصحيحات وتصويبات من الأستاذ المشرف، إلى أن أقدِّم مادّة مقبولة عن الرّواية موضوع الدّراسة.. (أذكُر أنّ الأستاذ كان قد طلب مني أن أحرّر أوراق البحث الجامعيّ بقلم الرّصاص وليس بقلمِ حبر؛ ما أتاح لي إمكانيةَ المحو والتصويب والتّعديل وفق ملحوظاته وتوجيهاته في الفقرات التي رأى أنها في حاجة إلى ذلك). وكانت المرحلة المُوالية هي عمليةَ تصفيف البحث الجامعيّ على جهاز الحاسوب، وما أدراك ما رقنُ بحث جامعيّ!.. كانت الرّاقنة (المصفّفة) التي كلفتُها بتلك المهمّة تُلحق أضراراً جسيمة بالمادّة التي وضعتُها في عهدتها كي تُصفّف كلماتها على جهازها. وأذكر جيداً أن عدد المرّات التي كان عليّ فيها أن أُدخل تدقيقاتي على ما كتبتِ الرّاقنة أرهقني أكثرَ ممّا أرهقَني مجهودُ إعداد البحث وتحريره! وكان من حسن حظي أن انتهى بي الأمر إلى تسليم نُسخ بحثي في الموعد.

من الأمور التي اعتدنا عليها في مرحلة التخرّج طبعُ نُسخ إضافية من بحوثنا، نخُصّها بإهداءات إلى بعض الأعزّاء من الأهل والأصدقاء، إضافة، طبعاً، إلى نسخة خاصّة، وبإهداء مُميَّز، إلى الأستاذ المُشْرف.

اقتصرتْ مُناقَشة البحث على بعض الأسئلة التي طرحها عليّ الأستاذ المُناقِش، بحضور زميله المشرف؛ ولا أذكر أنّ الأسئلة كانت صعبة، بل كانت في مُجملها في المُتناوَل. وحصلتُ على نقطة مُستحسَنة أنهتْ مشواري الجامعي بدون أيّ “سُقـوطْ”، عدَا كبوةِ السّنَة الثـّالثة.. الرّاشتاجْ!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *