عبد الرزاق بوتمزار
ح. 25
آخرُ الأدباء المُحترَمينْ..
أضـاعُـوني.. أوراق مـن سيـرة مُجـاز مُعطـّـَل (يوميـات)
ح. 25
آخرُ الأدباء المُحترَمينْ..
من حين إلى آخر، كانت نقاشاتٌ وجدالاتٌ بآفاقٍ أرحبَ تحتدم بيننا. ولأننا كنّا طلبةَ آداب يحدُث، في مُناسَبات كثيرة، أن تجُرّنا أحاديثنا إلى استعراض أسماء وأعمال بعض الأدباء الذين أثّروا فينا خلال فترات ابتلائنا بـ”داء” المطالعة.
أعلامٌ كثر ارتسمت ملامحُهم الأدبية وتياراتهم الفكرية في أذهاننا؛ بيد أنّ دراسة الآداب أضحت تعني الالتفاتَ إلى امتلاك مناهجَ ونظريات تحليليةً لـ”قراءة” نصّ من النصوص: شكلانية، بنيوية، ما بعد بنيوية، تفكيكية، جماليات تلَقّ ولستُ أدري أي تسميات أخرى وأوصاف.. كلّ “مدرسة” تُحلّل النص وتُشرّحه من زاوية نظر مُنظّريها الأوائل، الذين يُشكلون “علامات فارقةً” من منظور مُناصري كلّ نظرية أو تيار على حدَة.
ونحن، طلبةَ الآداب، المساكينَ، علينا، فقط، أن نحفظ ونستوعب. وحتى إذا ظللنا، في حالات كثيرة، عاجزين عن بُلوغ مُستويات الاستيعاب فلم يكن مسموحاً لنا بأن نعجزَ، على الأقلّ، على “الحفظ”؛ فقد يَفي، لوحده بالغرَض!
والحفظ في الكلية يعني القدرةَ على تذكّر كمّ هائل من المعلومات المُتصارِعة، تتجاذب عقولنا، المطالَبة بتسجيل وتخزين كلّ درس ورَكنِه، بعناية، في أحد أدراج الذاكرة المُثقَلة؛ حتى إذا لاحتْ الاختباراتُ في الأفق نجدها حيث “حفّظناها”، تنتظر فقط أن نستحضرها ونملأ بها بياض الأوراق القاسية والصّارمة التي يضعونها أمامنا ليَقيسوا درجاتِ استيعابنا دروسَهم وتنظيراتِهم.
في أحاديثنا ونقاشاتنا حول المدارس والتيارات التي طبعت السّاحةَ الأدبية، العربية والعالمية، كانت خديجة، إحدى رفيقات المرحلة الثانوية المُشاكِسات، كلما عرّجنا على الموضوع، تُذكّرنا -وهي تحاول أن تضع حدا لأحلامنا واستيهاماتنا المُنطلقة- بأنّ “عصرَ الأدب انتهى” وبأنّ “زمن الإبداع قد ولّى إلى غير عودة”.. في ظنها، لم تعد هناك إمكانية لأنْ تُنتج منظومتنا التعليمية والفكرية بعدُ أديباً بالمعنى الحقيقيّ! وتبعاً لذلك الاعتقاد، فما علينا إلا أن نستسلم للأمر الواقع ولا يشطحَ بنا خيالنا إلى أبعدَ من دائرة “حفظ” الدّروس إلى حين موعد الامتحانات وتجشّؤ ما حفظنا على الأوراق أمامنا ومُغادَرة القاعات، في انتظار النّتائج..
كانت خلاصاتُها والطريقة التي تختم بها نقاشاً من هذا النوع وتشديدَها على ضرورة التّسليم بالأمر الواقع تُصيبني بالإحباط.
كان يُفترَض فينا، حتى نحضر إلى قاعات الاختبارات ومُدرَّجاتها عند نهاية كلّ موسم جامعيّ غيرَ خائفين من مواجهة الأسئلة المُلغَّمة للأساتذة، أن نُواظب على حضور مُحاضَرات ودروس هؤلاء الأساتذة على مدار السّنة. مُحاضَرات مبنية على أفكار “أمّهات” الأفكار والكتب التي تأثر بها أولئك الأساتذة الجامعيون أو وجدوا أنفسَهم، ببساطة، مُجبَرين على إقناع أنفسِهم بجدوى هذه الاتجاهات والتيارات والتجارب الأدبية أو النقدية، كلٌّ حسب التخصّص الذي يُدرّس؛ حتى يستطيعوا إقناع هذه الجُيوش الهادرة من طلبة العلم على أعتاب جامعات مغربية مُترهّلة وإفحامَها بجدوى تبنّي هذا التيار أو ذاك.
في الحقيقة، لم يكن هناك أمر يُجبرنا، نحن الطلبة، على إلزام أنفسنا بحضور تلك المُحاضَرات أو الاستماع إلى ما يقوله أصحابها؛ فالجامعة تعني لكثيرين منّا مجالاً لممارسة الحُرّية، أولا، قبل أيّ شيء آخر؛ حُرّية امتدّت، بعد ذلك، إلى جوانبَ مُتشابكة ومُعقدة!..
