عبد الرزاق بوتمُزار
النّقطة والفاصلة وأخواتُهما..
ح. 15
منذ درس الأستاذ محمود، ذاتَ امتحان في السّنة الأولى من الطور الثانوي، عندما حاسبني على النقطة (.) والفاصلة (،) اختلفتْ كيفية تعاطيَّ مع أيّ مقروٍ، في لغة الضّاد على الخصوص. إذا لم يكن النصّ (أيّاً كان جنسه) سليماً، من ناحية المبنى قبل المعنى، فإنه يتعرّض منّي، في خلواتي المُنتظِمة، لتقريع لاذع! وشكلُ النصّ المكتوب يرتبط بعلامات الترقيم، ضمن مُحدّدات وضوابطَ أخرى كثيرة تصنع، في الأخير، نصّاً جميلاً، نصّاً مقروءاً. لكنّ علامات الترقيم تأتي -مع الأسف- في المُستويات الدّنيا في سلّم أولويات المسكونين بهُموم الكتابة، في عمومهم. هكذا، قد تقرأ كتاباً جميلا، من حيث عمق مضمونه وطريقة مؤلفه في إيصال أفكاره وعرضها؛ لكنْ حين تنتبه إلى النقطة والفاصلة وما يدور في فلكهما تجدها قد تعرّضتْ، على امتداد النصّ المكتوب، لتهميش أو سوء استعمال مُستفزٍّ في معظم الكتابات.
خلال تلك السّنة، أذكر أنّ المُمتحَنين في القاعة حيث رقمي كانوا يتكوّنون من فوجين؛ وكان يُدرّس مادّةَ الإنجليزية لتلاميذ الفوج الثاني أستاذٌ غيرُ أستاذنا. داخل قاعة الامتحان كانت إحدى تلميذات الفوج الآخر تجلس خلف ظهري المسكين مُباشَرةً. لا أدري كيف عرفتْ أنّني جيد في لغة الشّيخ زُبير، عفوا شكسبير؛ لكنها كانت، في مَرّات مُتقطعة، تغرز قلمَها “البيكْ” الأزرقَ في جنبَيْ بطنِي وهي تستعطفني، بإلحاح مشفوعٍ بمزيدٍ من الوخْز، أن أرحم ضعفها، الذي دلّت وخزاتُها المُتكرّرة والحادّة في ظهري على أنه يصل حدود تشْليلة تامّة وضاربة الأطناب.
ولمّا كانت التلميذة ابنةَ الحارس العامّ لمؤسَّسة إعدادية قريبة من التي ندرس فيها وكان لي بها سابقُ معرفة، إذ كنّا نسكن، ذاتَ طفولة بعيدة، في الحيّ نفسه؛ فقد اقتنعتْ بأنّ من الواجب عليّ أن أنظر من حالها.. وأذكر أنّني مرّرتُ لها أجوبةً عن جميع الأسئلة، من أولها حتى موضوعِ الإنشاءالختاميّ.. أتدْرُون ماذا كانت نهاية الحكاية؟ ذهبتْ ورقة أجوبتها عند أستاذها “المُتفاهم” ونقّطها 18/20؛ وانتهت ورقتي، أنا، بين يديْ الأستاذ محمود فحصلتُ بالكاد، على 14/20.
ومنذ شمْتة ذلك الامتحان استوعبتُ، جيداً، الدّرس الذي أفحمني الأستاذ محمود من خلاله بأهمّية علامات الترقيم في النصّ المكتوب؛ ولو كان جواباً عن سؤالٍ في اختبار. ذهبتُ إليه مُحتجّاً، وأنا لا أفهم لماذا “تَشدَّدَ” معي في التنقيط إلى تلك الدّرجة؛ بينما إحدى “كلخوزات” الفوج الآخر حصلتْ، بفضلي، على نقطة لم تكن لتحصل عليها حتى في أكثر أحلامها تفاؤلاً؛ لكنه لم يُعر احتجاجاتي اهتماماً.
أمّا هي فجاءتني ضاحكةً، ذات صباح، تزفّ إليّ خبرَها السّعيد، دون أن تدري أنها، وهي تخبرني ببشراها، تزيد من إحساسي بالغبن جرّاء النقطة غير المُتوقعة، التي أرفقها الأستاذ بملحوظة أفاضت الكأس.. لم ينس أن يكتب أسفلَ ورقة الامتحان: “انظر ورقة” (…) وذكر اسم الصّديق الذي اعتاد على نقل إجاباتي في معظم الموادّ؛ بل وتمريرها إلى مُنتظرين آخرين في صفوف الفصل البعيدة. وأسفلَ ورقة الصّديق، كتب الأستاذ العبارة أعلاه نفسَها وختمها بذِكر اسمي.. لم يجدْ أمامه سوى ذلك وسيلةَ احتجاج منه على كون ورقتيْنا تحمِلان الأجوبة نفسَها بالحرْف، وربّما بالنقطة والفاصلة!
ولأنّ صديقي كان من النوع الذي “يُخْلص للمصدر” الذي ينقل منه، فقد اكتفى بوضع اسمه وتوقيعه على ورقة الأجوبة التي نَسَخها من ورقة تَوصّلَ بها مني، ليخلق لي مع الأستاذ مشكلة تطورتْ إلى سوءِ تفاهم كاد ينتهي إلى واحد من المواقف التي تختلّ فيها جميعُ القواعد والضّوابط التي تحكم علاقةَ أستاذ -تلميذ..
كان محمود من الأساتذة ذوي الأعمار المُتوسطة، أقربَ إلى تفهّم أوضاعنا ومشاكلنا وإيجاد بعض الأعذار والتبريرات لتقبل مواقفنا ورُدودنا. كلما تضاءلت المسافة العمرية بين الطرفيْن كان التّفاهم هو ما ميّز تلك العلاقة. كلما تباعدت تلك المسافة تفاقمت الأمور بينهما أكثر وتناسلت الاختلافات. ولأننا كنا، أيضاً، جيلا “ذهبيا”، رغم النظرة “الناقْصة” لبعض الأساتذة، فقد أظهرنا، في مُناسَبات عديدة، أننا نستطيع، كذلك، أن نتجادل ونتواصل مع أساتذتنا بطرق “مُتحضّرة”!
استطاع أستاذ الإنجليزية، على كلّ حال، إقناعي بضرورة الانتباه أكثرَ، في المرّات المُقبلة، إلى النقطة والفاصلة وأخواتهما؛ بَيْدَ أنه بقي مُتشبّثاً بالنقطة التي وضع في ورقة الامتحان الخاصّة بي، رغم أنّني حاولتُ جاهداً أن أجعله يتراجع عن عناده، خُصوصاً أننا كنّا في موسمنا الدّراسي الأول في الأقسام الثانوية. كان الوضع في نظري يستدْعي بعض المُرونة؛ فأنا، قبل كلّ شيء، كان المرض قد غيّبَني عن حجرات الدّرس لأزيدَ من شهر؛ وفوق ذلك، أعفتْني الإدارة من اجتياز امتحانات الدورة الأولى من الموسم.. لكنّ كلّ ذلك لم يشفع لي لدى صاحب “نظرية” النقطة (.) والفاصلة (،) وأخواتهما، الذي علّمَنا قواعد الإنجليزية في عام واحد.
