إن المذكرة التي وجّهها وزير الداخلية لا تستند إلى أي أساس قانوني أو دستوري. فكل وثائق التنمية المحلية لها مرجع إمّا دستوري أو قانوني.

الدكتور – إدريس الفينة

المذكرة التي وجّهها وزير الداخلية إلى السادة الولاة والعمال، يحثّهم من خلالها على التسريع بإنجاز جيل جديد من برامج التنمية الترابية المندمجة NGDTI على مستوى الأقاليم والعمالات، كمستوى ترابي، وفي إطار من التشاور مع مختلف الفرقاء المعنيين، تستدعي عدداً من الملاحظات الهامة.

فالمذكرة جاءت كتفاعل مع محتوى الخطاب الملكي الذي أكّد على ما يلي: “..غير أنه، مع الأسف، ما تزال هناك بعض المناطق، لاسيما بالعالم القروي، تعاني من مظاهر الفقر والهشاشة، بسبب النقص في البنيات التحتية والمرافق الأساسية.

وهو ما لا يتماشى مع تصورنا لمغرب اليوم، ولا مع جهودنا في سبيل تعزيز التنمية الاجتماعية وتحقيق العدالة المجالية.

فلا مكان اليوم ولا غداً، لمغرب يسير بسرعتين.

لقد حان الوقت لإحداث نقلة حقيقية في التأهيل الشامل للمجالات الترابية، وتدارك الفوارق الاجتماعية والمجالية.

لذلك ندعو إلى الانتقال من المقاربات التقليدية للتنمية الاجتماعية، إلى مقاربة للتنمية المجالية المندمجة.

هدفنا أن تشمل ثمار التقدم والتنمية كل المواطنين، في جميع المناطق والجهات، دون تمييز أو إقصاء.

ولهذه الغاية، وجّهنا الحكومة لاعتماد جيل جديد من برامج التنمية الترابية، يرتكز على تثمين الخصوصيات المحلية، وتكريس الجهوية المتقدمة، ومبدأ التكامل والتضامن بين المجالات الترابية.

وينبغي أن تقوم هذه البرامج على توحيد جهود مختلف الفاعلين، حول أولويات واضحة، ومشاريع ذات تأثير ملموس، تهم على وجه الخصوص:

*أولاً: دعم التشغيل، عبر تثمين المؤهلات الاقتصادية الجهوية، وتوفير مناخ ملائم للمبادرة والاستثمار المحلي؛

*ثانياً: تقوية الخدمات الاجتماعية الأساسية، خاصة في مجالي التربية والتعليم والرعاية الصحية، بما يصون كرامة المواطن ويكرّس العدالة المجالية؛

*ثالثاً: اعتماد تدبير استباقي ومستدام للموارد المائية، في ظل تزايد حدّة الإجهاد المائي وتغير المناخ؛

*رابعاً: إطلاق مشاريع التأهيل الترابي المندمج، في انسجام مع المشاريع الوطنية الكبرى التي تعرفها البلاد.”

غير أنّ جلالة الملك لم يطلب من وزير الداخلية توجيه مذكرة من هذا النوع إلى المسؤولين الترابيين، إذ إنها مذكرة تخرق عدداً من القوانين الأساسية المرتبطة بالبناء الديمقراطي في المملكة، وهي القوانين التي تحدد اختصاصات الجماعات والأقاليم والجهات.

علماً أن جلالة الملك يحرص، وبشدّة، على تتبّع مسار البناء الديمقراطي، وخاصة من باب احترام المواعيد والقوانين الانتخابية، حيث كلّف وزير الداخلية بتحيينها وتنظيمها في موعدها، بتشاور مع الفرقاء السياسيين.

كان الأجدر بوزير الداخلية أن يعقد ورشة عمل داخلية، بمعية خبراء، لتحليل معنى الانتقال من مقاربات تقليدية للتنمية الاجتماعية إلى مقاربات للتنمية المجالية المندمجة، وفهم خلفيات الدعوة إلى جيل جديد من برامج التنمية الترابية، وكذا الأسباب الكامنة وراء الوضع الترابي الحالي. ذلك أن السادة العمال والولاة سيعطون تأويلات وقراءات متباينة لهذه المفاهيم المعقدة.

غير أن ما قام به وزير الداخلية هو أنه ألقى بالكرة الساخنة في مرمى الولاة والعمال لتدبير الأمور، وهو ما يعني، بكل تأكيد، تكريس الوضع السابق واستمرار الحال على ما كان عليه لسنوات قادمة.

فالخطاب الملكي أشار إلى وضع قائم، نتاج لحكامة ترابية ومقاربات غير منتجة، كان نفس هؤلاء العمال مسؤولين عنها أو مشرفين عليها.

كان الأجدر أولاً الوقوف عند العوامل الحقيقية التي تقف وراء ما وصفه الخطاب الملكي بـ”مغرب السرعتين”.

فالأمر لا يتعلق بغياب وثائق أو برامج جديدة تُنجز على وجه السرعة وبدون تفكير عميق مسبق، بل يتعلق أساساً بعاملين رئيسيين:

*ضعف التمويلات الموجهة لهذه المناطق الفقيرة؛

*ضعف الحكامة الترابية.

لقد قامت قبل أكثر من عشر سنوات دراسة أنجزها مركز التفكير الذي أشرفت عليه شخصياً، ونُشر ملخص لها في مجلة علمية دولية بالإنجليزية، وخلصت إلى هذه الحقيقة: الميزانيات المخصصة للجماعات الترابية التي تعاني من عجز كبير على مستوى الخدمات والبنية التحتية هي ميزانيات ضعيفة جداً، ولا تسمح – حتى خلال السنوات المقبلة – بالقضاء على هذا العجز المتراكم أو بتمكينها من بلوغ المستوى المطلوب من التنمية الاجتماعية والاندماج الترابي.

أما المشكل الثاني، فهو مرتبط بالقيادات المحلية (العامل والمجلس الجماعي خصوصاً، إضافة إلى المصالح غير الممركزة) ومدى قدرتها على تنفيذ برامج التنمية بالسرعة المطلوبة.

من جهة أخرى، فإن المذكرة التي وجّهها وزير الداخلية لا تستند إلى أي أساس قانوني أو دستوري. فكل وثائق التنمية المحلية لها مرجع إمّا دستوري أو قانوني:

*برنامج العمل الجماعي نصّ عليه قانون الجماعات؛

*برنامج العمل الإقليمي نصّ عليه قانون الإقليم؛

*برنامج العمل الجهوي نصّ عليه قانون الجهة.

أما الوثيقة التي طُلب من الولاة والعمال إعدادها على وجه السرعة، فلا يوجد لها أي سند قانوني أو دستوري.

ونحن على أبواب انتخابات جماعية وبرلمانية، كان من الأولى تعديل القوانين الخاصة بالجماعة والإقليم والجهة لتتماشى مع الرؤية الملكية الجديدة، مع السماح للأجهزة المنتخبة بالقيام بأدوارها، ومواكبتها بشكل كامل من قبل الولاة والعمال.

إن نتائج الإحصاء العام الأخير تشكّل اليوم مرجعاً أساسياً لتحديد المناطق التي تتطلب تدخلات مستعجلة. كما ينبغي، بالتوازي، تحديد آليات تمويل جديدة للتدخل في هذه المناطق، لأن الاستمرار في الاعتماد على الميزانيات الضعيفة الحالية لن يسمح بالخروج من الوضع القائم، مهما بلغ مستوى ذكاء البرامج التي سيتم إعدادها.

خبير جيو-إستراتيجي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *