لم يكن استقبال الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو في الجزائر حدثا عاديا، ولا مجرد زيارة بروتوكولية لرئيس دولة صديقة.
فالدكتاتور الذي يحكم بيلاروسيا منذ 1994، والذي لا يكاد يظهر في عناوين العالم إلا حين ترتبط بلاده بالعقوبات أو العزلة أو دعم العمليات الروسية، لا يمتلك من عناصر الجذب ما يبرر كل هذه الحفاوة الرسمية. ومع ذلك، بدا المشهد في الجزائر أقرب إلى احتفال بنجم دولي قادر على فتح الأبواب المغلقة.
والسر، كما يدرك المطلعون، يكمن في مكان آخر تماما: في واشنطن. تحديداً عند رجل الأعمال اليهودي الأمريكي ستيف ويتكوف، المستشار المقرب من إدارة ترامب الثانية، الذي تحدث قبل مدة عن إمكانية التوصل إلى “اتفاق سلام بين الجزائر والمغرب خلال ستين يوما”.
تصريح دوّى في الأوساط السياسية، ليس لأنه واقعي، بل لأنه أظهر حجم القلق الجزائري من المتغيرات الدولية، وسعي العسكر إلى استكشاف أي نافذة يمكن أن تخفف الضغط الأمريكي المتزايد.
من هنا تُفهم زيارة لوكاشينكو. فالرجل القادم من دولة تُعد امتدادا تاريخيا لجذور أجداد ويتكوف، تحول في حسابات المرادية إلى جسر محتمل نحو الرجل المؤثر في البيت الأبيض.
هي محاولة لإعادة إنتاج خطة دبلوماسية اضحى يكررها النظام كلما ضاقت به السبل: إن كانت الجينات والأصول طريقا إلى القلب، فربما تكون طريقا إلى السياسة أيضا.
هذا المنطق ليس جديدا، فقد جربه النظام الجزائري مع سلوفينيا، بلد ميلانيا زوجة ترامب، قبل أن يجد نفسه أمام خيبة صريحة حين صوتت ليوبليانا داخل مجلس الأمن لصالح القرار 2797 الذي شكل انتصارا تاريخيا للمغرب.
وقد جرب النظام الوصفة نفسها مع لبنان استباقا لاجتماع مجلس الامن بخصوص ملف الصحراء، حين أغدق عليها بـ 200 مليون دولار بعد زيارة اللبناني مسعد بولس مستشار الرئيس الأمريكي وصهره العاصمة الجزائر، والهدف التأثير عبر اللبناني لكنه فشل ولم يكسب إلا بعض الكلمات التي دغدغت مشاعر العسكر بشكل موقت وهنا اقصد الخرجات الإعلامية للمستشار بولس.
لكن النظام الجزائري وهو يعيش أسوأ فتراته والمصدوم بعد صدور القرار 2797 يرفض الإقرار بالهزيمة.
ولأن القرار الأممي وضع حدا لمساحة المناورة، خصوصا بعد صدور النسخة الرسمية، لم يبق أمام العسكر سوى محاولة إطالة أمد النزاع داخل أروقة الأمم المتحدة عبر صناعة ضوضاء خارجية توحي بأن الجزائر “غير معزولة”، وأنها قادرة على خلق شبكات جديدة قد تؤثر في واشنطن، ولو نظريا.
من هذا الباب أيضا، اراد العسكر كذلك استغلال التقارب البيلاروسي الاسرائيلي الذي تاكد امس عبر خبر استئناف الرحلات الجوية المباشرة بين تل أبيب ومينسك ابتداء من فبراير 2026.
قد يراه البعض خبر عادي في الصحافة الدولية، لكنه في مخيلة النظام الجزائري ظهر كعصفور نادر يمكن الإمساك به: إذا كانت إسرائيل تعيد الارتباط ببيلاروسيا، وبلاروسيا صديقة الجزائر، ولوكاشينكو يحكم البلد الأصلي لستيف ويتكوف…
فربما يمكن فتح قناة غير مباشرة مع تل أبيب، ومنها إلى واشنطن، وعبر ذلك إلى محاولة التأثير في ملف الصحراء. سلسلة تمنيات أكثر منها حسابات سياسية، لكنها تلائم تماما طريقة تفكير نظام يخلط اوراقه بيده ثم يبعثر جزء منها ويمزق الجزء الآخر.
وإلا، فكيف يمكن تفسير توقيع هذا العدد الهائل من الاتفاقيات في يوم واحد؟ اتفاق عسكري وتقني، تعاون علمي، خرائط طريق اقتصادية، شراكات في التعليم والصناعة والبحث العلمي والصحة الحيوانية والابتكار والفلاحة…
كل ذلك مع دولة تعيش تحت عقوبات شاملة، وتعتمد اقتصاديا على روسيا إلى حد كبير. المشهد يوحي أكثر بمحاولة إنتاج “دخان سياسي كثيف” يغطي حقيقة أن النظام يبحث عن الوقت فقط، لا عن التحالفات.
جوهر هذه التحركات واضح، فالجزائر الرسمية تريد عرقلة المسار الأممي الجديد، أو على الأقل تأخيره قدر المستطاع.
فبعد أن حسم القرار 2797 مرجعية السيادة المغربية، وثبت الحكم الذاتي كقاعدة اساسية للتفاوض، واقر بوضوح إلى مسؤولية الجزائر عبر استعمال مصطلح “الأطراف”، لم يعد أمام النظام سوى استراتيجية واحدة: التشويش، وإطالة الزمن، وخلق ضوضاء دبلوماسية لكنه لم يدرك بعد ان ذلك لن يغير من الأمر شيئا.
يبدو المشهد اليوم كما لو أن النظام يحاول إعادة كتابة قواعد اللعبة عبر بوابة لوكاشينكو: توقيع اتفاقيات لا يمكن تنفيذها، مجاملة رئيس معزول دوليا، استغلال تقارب جديد بين تل أبيب ومينسك، وتضخيم صلات بعيدة بين رجل أعمال مقرب من الرئيس الأمريكي جذوره بيلاروسية.
لكن السياسة، خلافا للخيال، لا تتأثر بالأنساب ولا بالصدف، ولا تتغير بزيارة رئيس محاصر ولا بخط جوي جديد.
العالم يتحرك وفق المصالح والقانون، والقرار الأممي الأخير وضع حجرا ثقيلا على ميزان الحقيقة: الصحراء مغربية، والجزائر طرف، والحكم الذاتي هو المستقبل.
كل ما يفعله النظام اليوم ليس سوى محاولة لكسب الوقت… ومن يعرف قواعد اللعبة يدرك أن الزمن لم يعد في صالحه.
وليد كبير / كاتب صحفي
