ذكرت الخزينة العامة للمملكة، في بلاغ لها اليوم الاثنين 13 أكتوبر، أن وضعية تحملات وموارد الخزينة أفرزت عجزا في الميزانية بقيمة 50,5 مليار درهم عند متم شهر سبتمبر 2025، مقابل عجز قدره 26,6 مليار درهم قبل سنة.
ورغم أن هذا الرقم يعكس في ظاهره خللاً مالياً متنامياً، إلا أنه في العمق يُترجم مفارقة مالية واقتصادية مركّبة يعيشها المغرب: مداخيل جبائية تنمو بوتيرة غير مسبوقة، يقابلها إنفاق عمومي يزداد اتساعاً ليبتلع كل مكاسب التحصيل.
موارد تنمو.. لكن النفقات تسبقها بخطوة
فخلال الأشهر التسعة الأولى من السنة الجارية، بلغت المداخيل العادية 310,7 ملايير درهم، مسجلة ارتفاعاً بـ 17,4 في المائة، وهي قفزة معتبرة تعود بالأساس إلى تحسن أداء الضرائب المباشرة (+25,1%)، وتوسع قاعدة الضرائب غير المباشرة (+10,2%)، إضافة إلى ارتفاع الرسوم الجمركية والمداخيل غير الضريبية.
لكن هذه الطفرة في الإيرادات لم تُترجم إلى تحسّن في التوازنات المالية، لأن النفقات العادية قفزت بدورها بـ 18,9 في المائة لتصل إلى 280,2 مليار درهم، في حين بلغ إجمالي النفقات الصادرة عن الميزانية العامة 396 مليار درهم، بزيادة 9,1 في المائة.
ويُعزى ذلك بالأساس إلى ارتفاع نفقات التسيير بنحو 20 في المائة، أي أن كتلة الأجور وتكاليف التسيير الإداري ما زالت تستهلك الجزء الأكبر من الموارد العمومية، بينما تسجل نفقات الاستثمار زيادة محدودة بـ 7,2 في المائة فقط.
كلفة الدين ترتفع.. والتمويل الداخلي يفرض تحديات جديدة
واحدة من النقاط الحساسة في التقرير تتعلق بارتفاع فوائد الدين العمومي إلى 37,2 مليار درهم (+13,2%)، مدفوعة بزيادة ملحوظة في فوائد الدين الداخلي (29,8 مليار درهم) مقابل تراجع نسبي في فوائد الدين الخارجي.
هذا يعني أن الدولة تتجه أكثر نحو الاقتراض الداخلي لتغطية حاجيات التمويل (46 مليار درهم)، مستفيدة من استقرار السوق الوطنية، لكنها في المقابل تواجه ارتفاعاً في كلفة الاقتراض مع صعود أسعار الفائدة خلال السنتين الأخيرتين.
وهنا تبرز معضلة مزدوجة: فالتمويل الداخلي يمنح هامش استقلالية أكبر عن تقلبات الأسواق العالمية، لكنه يضغط على السيولة المحلية ويرفع كلفة خدمة الدين، بما يقلّص قدرة الدولة على تمويل برامجها التنموية مستقبلاً.
ميزانية بين طموح اجتماعي وضغط مالي
الوضعية الحالية تُظهر أن المالية العمومية المغربية تتحرك داخل مساحة ضيقة بين التزاماتها الاجتماعية المتزايدة، في مجالات الدعم المباشر والتعليم والصحة والتشغيل، وبين ضرورة الحفاظ على نسب عجز ومديونية في حدود مقبولة.
فعلى الرغم من تحقيق رصيد عادي إيجابي (30,5 مليار درهم)، فإن استمرار تضخم نفقات التسيير يجعل هذا الفائض مؤقتاً وهشاً.
وفي ظل توسّع البرامج الاجتماعية وتمويل الأوراش الكبرى، يبدو أن الدولة تواجه خياراً صعباً بين الاستمرار في سياسة الإنفاق الداعم للنمو، أو الدخول في دورة جديدة من الانضباط المالي المشدد الذي قد يحد من وتيرة الاستثمار العمومي.
الإصلاح المالي.. أولوية المرحلة المقبلة
إذا كانت الأرقام تعكس واقعاً آنياً، فإن التحليل الأعمق يكشف الحاجة الملحة إلى إعادة هيكلة المنظومة المالية على أسس جديدة، تراعي، أولا ترشيد الإنفاق العمومي وتحسين مردودية الميزانيات القطاعية، وثانيا توسيع القاعدة الضريبية بعدالة، لا بزيادة العبء على نفس الفئات، وثالثا التحكم في وتيرة الاقتراض الداخلي عبر سياسات نقدية ومالية متناسقة.
فالمغرب مقبل على مرحلة تتطلب ميثاقاً مالياً جديداً يقوم على التوازن بين متطلبات النمو والعدالة الاجتماعية من جهة، واستدامة المالية العمومية من جهة أخرى.
إن عجزاً بقيمة 50,5 مليار درهم لا يُختزل في رقمٍ مالي جامد، بل هو إشارة إنذار إلى أن كلفة الدولة في تصاعد، وأن الإصلاح المالي لم يعد خياراً مؤجلاً، بل ضرورة وطنية لضمان مناعة الاقتصاد وقدرته على مواجهة التحولات الإقليمية والدولية.
تحليل اقتصادي: أحمد عبد ربه
