أعدها للنشر: المصطفى الحروشي
“رجاء لا تطلب مني أن أصمت”.. “اسمح لي بأن أتنفس”… بمثل هذه العبارات يخاطب “اللاجئ” مصطفى سلمى ولد سيدي مولود، القائد السابق لما يسمى بجهاز الشرطة لدى ملشيات جبهة “البوريساريو” من يطالبونه الكف عن خط حكايات بخط اليد حول أهوال الجحيم، هناك في مخيمات الحديد والنار والقمع والحصار في تندوف فوق التراب الجزائري.
جريدة “le12.ma” تنشر طوال الشهر الفضيل حلقات سيرة ذاتية بطلها إنسان بعنوان “الخروج من فم الثعبان” يروي أسرار تفاصيلها مع عاش تفاصيلها.
*لا تطلبوا مني أن أصمت
اِنطلقت بنا السيارة العسكرية بمواكبة عدة سيارات، بعد أن أطفؤوا الأضواء.. تعرّضنا في الطريق لإطلاق نار تحذيري من سيارات أخرى.. أعقبه تفاهم، حسب ما يبدو، بين المجموعتين. توقفنا في بطن واد. وطلبوا مني النزول عند نبتة من “الغردق” بعد أن أعطوني بطانيات من أمتعتي كنت أحضرتها تحسّبا للاعتقال. وتوزعت السيارت والمجموعة في الوادي مغطية الاتجاهات الأربع.
بعد صلاة الصبح، انطلق الركب من جديد، وانتقلنا إلى واد آخر قرب “كارة أباعلي”، وأنزلوني تحت ظل شجرة من أشجار “الطلح”، أمضيت يومي تحتها، معزولا كما البارحة. يأتيني أحد القادة بوجبتي الغداء والعشاء وكأس الشاي، وهو التواصل الوحيد الذي يتم بيني وبينهم.
كانت مجموعات المرافقة، ما عدا القائدين، كلها شباب، أغلبهم في العشرينات، كما يلاحظ. يتناوبون على الحراسة على مسافات من 50 إلى 100 متر مني، بانضباط لا يخلو من توتر أحيانا.. فمنذ شهر والآلة الدعائية تشتغل، وهم الآن يحرسون “أكبر مجرم مطلوب لدى الجبهة”!
في ذلك اليوم أردت الذهاب إلى “الحمّام”.. وحيث ما ذهبت يتبعني حارس.. فلم أستسغ الأمر. وطلبت القائد المشرف من أجل تسوية هذا الموضوع. وكان متفهما وحدّدوا لي شجرة “حمّامي”. فصارت لي شجرتان في الوادي، واحدة للسكن وأخرى لـ”الحمام”!
المشكل الثاني هو عدم وجود كتاب للمطالعة، والمذياع ممنوع.. وعلي تمضية الوقت في مراقبة حركة النمل الموجود بكثرة في الوادي ساعات النهار، وتفاصيل الشجر، وتارة يكسر رتابة اليوم مرور “زلّذم” بخفة بالقرب مني أو بعض الخنافس.
مر يومان ونحن في ذلك الوادي. وكنت قد سألت القائد لماذا نحن في ذلك المكان. قال إن الناحية لا تتوفر على سجن وإنهم أخبروا القيادة بذلك. واقترحابن عمي، مدير الأمن وقائد المجموعة، على القيادة أن يأخذني إليهم في الرابوني دون حراسة، فلا يبدو من سلوكي أو تصرفي ما يثير الريبة. لكن المسؤولين طلبوا منهم إبقائي معهم في الخلاء، ما لم يستوعبه مجموعة العسكر الذين يحتجزونني.
في اليوم الثالث تحرّكنا شرقا، نحو “لمكاسم”، وأُنزلت كالعادة تحت شجرتي. وبعد فترة، تم استدعاني أحد الحراس إلى طرف من الوادي، حيث توجد سيارة منعزلة عن المجموعة. أوصلني إليها وانصرف..
من الشخصين الذين وجدت أمامي عرفت أن السيارة تابعة لجهاز الأمن العسكري للجبهة، والضيوف الجدد هم أحد مدرائي القدامى في جهاز الشرطة، ابن عمي، محمد لمين بشري، الذي كان حينئذ يشغل منصب سامي في المخابرات ومعه ضابط سامٍ آخر، اسمه لغزال. أخبروني بأنهم أتوا للتحقيق معي.. سألتهم هل يقصدون تحقيقا قضائيا أم أمنيا. وفي الحالتين لا أرى أنه من اللائق ولا القانوني أن أمضي حتى الساعة ثلاثة أيام في الخلاء ولا أقبل التحقيق تحت ظل شجرة، اللهم إن كان سيكون بحضور محام من اختياري. وتطوعا مني، سأقص عليهم رحلتي منذ خروجي من المخيمات حتى الساعة ليكونوا على بيّنة، بغض النظر عما يجول في أذهانهم.. ولن أقبل التعاطي مع أي مسار قضائيّ قبل كفالة حقوقي القانونية، إن كنت في حالة اعتقال وليس حالة اختطاف: سجن معلوم، الاتصال بعائلتي، ومحام للدفاع عني.
انتهت جلسة التحقيق الأولى تحت الشجرة، على أساس أنّ المحققين سيراجعون قادتهم ويعودون.. طلبت ابن عمي، المسؤول عن التحقيق، على انفراد. وحمّلته رسالة إلى القيادة مفادها: إن ما وقع حتى اللحظة مقبول ويمكن تبريره، فإيقاف شخص والتحقيق معه بشبهة، مهما كانت، أمر قانوني وعادي، لكنّ الاستمرار في إخفائي القسري سيسيء إليكم، داخليا وخارجيا. ومن حيث ما قمت به من أفعال فما قلته لكم هو ما وقع دون زيادة أو نقصان، فلم يطرأ سوى أني بتّ أرى أن حل “الاستقلال” غير ممكن وأن حلّ الحكم الذاتي ممكن ومتاح. ومن الحماقة الاستمرار في مطاردة السّراب.. وأن اعتقالي فقط لأني عبّرت عن رأي لم يعد مقبولا في زماننا.. وأني أقترح عليهم إنهاء هذا الأمر قبل أن يستفحل. ولهم رأيهم ولي رأيي.. وإذا كانوا يخشون أن أغيّر قناعة الصحراويين فأنت أول من عليه أن يطلب منهم (أي القادة) أن يستقيلوا و يتركوا الصحراويين يقررون مصيرهم..
وللحكاية بقية…
