أعدها للنشر: المصطفى الحروشي

“رجاء لا تطلب مني أن أصمت”.. “اسمح لي بأن أتنفس”… بمثل هذه العبارات يخاطب “اللاجئ” مصطفى سلمى ولد سيدي مولود، القائد السابق لما يسمى بجهاز الشرطة لدى ملشيات جبهة “البوريساريو” من يطالبونه الكف عن خط حكايات بخط اليد حول أهوال الجحيم، هناك في مخيمات الحديد والنار والقمع والحصار في تندوف فوق التراب الجزائري.

جريدة “le12.ma” تنشر طوال الشهر الفضيل حلقات سيرة ذاتية بطلها إنسان بعنوان “الخروج من فم الثعبان” يروي أسرار تفاصيلها مع عاش تفاصيلها.

*لا تطلبوا مني أن أصمت

مساء 13 أكتوبر طُلب مني الصعود في سيارة يقودها عمار ولد امحمد، وهو من قبيلة أيت لحسن، يرافقه المهدي ولد بيها، من قبيلة أولاد عبد الواحد. وقد ذكرت انتماءاتهم القبَلية لما سيحصل لاحقا في ذلك المساء..

انطلقت بنا السيارة. وبعد لحظات التفتّ إلى الخلف ولم ألحظ بقية السيارات، كما جرت العادة. لذلك نبّهت القائد عمار إلى الأمر، فرد علي بأنهم سيلحقون بنا.

اتجهنا في البداية شمالا، ثم غربا، في رحلة غريبة لم أفهم وجهتها. ظننت أول الأمر أنهم يطيلون المسافة عمدا كي ندخل مقر القيادة العسكرية ليلا.. وقد مرت ستة أيام على لقاء قاضي التحقيق، الذي كان سيعود قريبا.

بحلول الظلام، توجهوا مباشرة نحو مقر الناحية، لكني فوجئت بأنهم مروا وسط القطاع العسكري ولم يتوقفوا.

عمار رجل رزين وعاقل، وبالتأكيد عرف أني اكتشفت أن هناك شـيئا ما غير طبيعي، فبادر بمخاطبتي: نحن سنودّعك وسنسلمك لأصدقائك. فقلت له: لا يغالطكم أحد، فهذا الظرف حسّاس، وكل شيء محتمل، ولو كان الأمر طبيعيا لماذا انتظروا حتى حل الظلام. أعرف أنك عبد مأمور وتنفذ أوامر. لكنْ أنصحك بتبرئة ذمتك بأن يوقع لك من سيسلمني شهادة بأنه تسلّمني منكم، وبحضور شهود. فانتم لستم من قبيلتنا، وقد تتورطون في مشكل كبير إن وقع لي أي مكروه، فزملاؤكم يشهدون بأنكم آخر شخصين كنت برفقتهما.

خلال حديثنا لاح لنا ضوء مصباح يدوي أمامنا، ما لبثنا أن وصلنا إليه، فإذا هو جنديّ في كامل هيئته العسكرية. قال لنا، دون أن نسأله، إن مقر الناحية بقي وراءنا، إن كنا ذاهبين إلى الناحية. بدا أنهم لا يعرفونه ولا يعرفهم، وكل يريد أن يعرف سبب مجيء الآخر دون أن يفصح عن هويته.

استأذنت بالنزول لأداء صلاة المغرب، فقد تأخر وقتها كثيرا. وتركتهم في نقاشهم.

وما إن فرغت من الصلاة حتى تقدم مني صاحب المصباح وأمسك ساعدي. وخلال سؤالي له، تدخّل عسكري آخر غريب وأمسك يدي الأخرى وقاما بسحبي نحو الظلمة. ناديت عمار أستفسره عن الأمر فلم يردّ. استمر الجنديان يسحبانني حتى نزلنا من منحدر، فإذا فيه عدة سيارات، تحمل إحداهما علامة درك الجبهة ولم أتبين السّيارات الأخرى بسبب الظلام.

حين اقتربنا من السيارة الأولى، تدخل جندي ثالث ووضع عصابة على عيني وقيودا في يدي. ثم شعرت بهم يدفعونني داخل سيارة مغطاة.. وبعد دقائق شعرت بأن السيارة بدأت تتحرك. استمرت الرحلة ساعات، تخللتها توقفات، أسمع خلالها فتح أبواب السيارة و إغلاقها. ولا حديث يجري داخل السيارة.

توقفوا في ساعة متأخرة من الليل وأنزلوني. ثم سحبوني عدة أمتار منهم، قبل أن ينزعوا عني عصابة الأعين والأصفاد. فإذا بها سيارة واحدة، بلا مرافقة، تحمل علامة درك الجبهة فيها 5 أو 6 عسكريين مقنّعين لا تُرى إلا أعينهم، والحديث بينهم إما همسا أو بالإشارة.

أخبرني أحدهم، بعد أن أعطاني بطانيتي، بأننا سنبيت في ذلك المكان، و كانت ليلة شديدة البرودة والمكان كأنه ساحة، ليس فيه مكان للاحتماء من البرد.

سألتهم إن كان عندهم ما يؤكل، فأنا مسافر منذ الخامسة مساء، وقالوا لا.

ولأول مرة، منذ قرابة أسبوعين، أشعر بالتوتر الممزوج بالخوف. فلا أعرف من هؤلاء المقنعون و لا ما وجهتهم.. خيل إلي، في البداية، أنهم يأخذونني إلى الجزائر و لا يريدون أن يعرف أحد. ولكن معالم الأرض التي نحن فيها لا توحي بأنها من أراضي الشمال، فهي أقرب إلى تربة أراضي الجنوب.. وبتّ ليلتي غير مطمئن، وجافاني النوم رغم تعب الرحلة الطويلة.

في ساعة الفجر الأولى استيقظ من كانوا منهم نائمين وأشعلوا نارا خفيفة وبدؤوا في تحضير الشاي. سمعت، غير بعيد منا، نباح كلب وأصوات ماشية.. ثم بدأت ملامح المنطقة تتكشف مع انبلاج الصبح. فإذا بنا  في منطقة ” اكنز” داخل الأراضي الموريتانية، شمال “لحفيرة”.

انتهى إعداد الشاي بسرعة، وتقدم مني أحدهم وقال إننا سنكمل الرحلة، فقلت له أريد أن أعرف من قائد المجموعة، فأشار إلى الشخص الجالس خلف مقود السيارة، وذكر اسمه “لمغيفري”.. تقدمت نحو “لمغيفري”، وكنت أعرفه جيدا في جهاز الدرك. وسألته هل هو صاحب فكرة أن أقيد وتعصّب عيناي، فقال لي إنني أعرف رتبته وحدود سلطاته وإنه ليس صاحب الفكرة. ولكنه الآن هو قائد هذه المجموعة ولن يفعل.

صعدت السيارة مع أفراد المجموعة المقنعة. وبعد أقل من ساعة دخلنا وادي “اجحيفة”، وفيه عدة سيارات عسكرية والعديد من الجنود. وفي بطن الوادي، بين الأشجار، نصبت خيمتان صغيرتان بينهما مسافة 100 متر تقريبا. توقفوا عند الخيمة الشمالية وطلبوا مني النزول وقالوا إن هذه الخيمة ستصبح زنزانتي.

بعد نصف ساعة تقريبا دخل علي المهدي ولد بيها، وهو أحد القائدين العسكريين الذين كانا يرافقانني قبل أن يتسلّمني المقنعون في الظلام.

قال إنه لما شاهد ما وقع عند عملية التسليم، لم يطمئن، وقد كنت تحت مسؤوليته، لذلك أصرّ على أن يرافقني إلى الوجهة التي سأقتاد إليها وألا يسلمني إلا في وضح النهار، بعد أن يتعرف على الجهة والأشخاص الذين سيتسلمونني.. أخبرني بأنني أصبحت تحت مسؤولية درك الجبهة القادم من الرابوني، قائدهم يدعى البخاري كينو. وقبل أن يودّعني أهداني مصحفا، وكان أثمن هدية تلقيتها في حياتي، فلم أشعر بالوحدة بعد أن وجدت ذلك المصحف.

تغير الحراس من جنود الناحية العسكرية إلى جنود الدرك، وتغيرت الزنزانة من شجرة إلى خيمة صغيرة، واستمر العزل. لا سلام ولا كلام..

في الوادي -المعتقل الجديد، هناك حارسان فقط يُسمح لهما بالتواصل معي، يحضران لي الوجبات والماء. عرفت في ما بعد أن أحدهما أخ الصحافي السالك رحال، الذي جمعت الجبهة أدلة إدانتي المزعومة من لقاء متلفز أجريته معه على قناة العيون الجهوية، وضحكت من سخرية القدر…

وللحكاية بقية…  

  

في الصورة: المصحف الذي سيصبح أنيسي في معتقلي

   

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *