إعداد: إلياس زهدي

حلقة 5


المعطف -نيكولاي غوغول

(1809 -1852)

(3 /3)

وجاء هذا المعطف في أنسب وقت ممكن. فقد بدأ بالفعل الصقيع الشديد وبدا أنه ينذر بمزيد من البرد. وصنع بيتروفتش بالمعطف كما يليق بخياط جيد. فقد ظهر على وجهه تعبير أهمية لم يره عليه أكاكي أكاكيفتش قط من قبل. وبدا أنه يدرك الهوة التي تفصل بين الخياطين الذين يركبون البطانات فقط ويصلحون الملابس وبين الخياطين الذين يخيطون الملابس الجديدة.

أخرج بيتروفتش المعطف من المنديل الذي لفه به. وكان المنديل خارجا من أيدي الغسالة لتوه، وقد لفه بيتروفتش بعد ذلك ووضعه في جيبه للاستعمال، وبعد أن أخرج المعطف نظر إليه بزهو شديد وأمسكه بكلتا يديه. ثم ألقى به، بمهارة شديدة، على كتفي أكاكي أكاكيفتش. ثم شده وسوَّاه بيده من الخلف إلى أسفل ومر بيده على المعطف وهو مسدل على كتفي أكاكي أكاكيفتش. ولكن أكاكي أكاكيفتش، كرجل متقدم في العمر، أراد أن يجرّب المعطف، وقد ارتداه بأكمامه، فساعده بيتروفتش على ارتدائه، فظهر أنه جيد بالأكمام أيضا. وباختصار، فقد اتضح أن المعطف كان على مقاسه بالضبط. ولم ينس بيتروفتش بهذه المناسبة أن يقول إنه فقط لأنه يعيش بدون لافتة وفي شارع صغير، وفوق ذلك يعرف أكاكي أكاكيفتش منذ فترة طويلة، فقد تقاضى أجرا قليلا إلى هذا الحد. أما في شارع «نيفسكي» فكانوا سيأخذون منه خمسة وسبعين روبلا على الخياطة فقط. ولم يشأ أكاكي أكاكيفتش أن يجادل بيتروفتش في هذا الأمر. وعلاوة على ذلك فقد كان يخاف من تلك المبالغ القوية التي كان يحلو لبيتروفتش أن يوهم بها الزبائن. فنقَده أجره وشكره وغادر مرتديا المعطف الجديد قاصدا، على الفور، الإدارة.

وخرج بيتروفتش في أثره ووقف في الشارع ينظر طويلا إلى المعطف من بعيد. ثم انعطف عن عمد إلى حارة ملتوية لكي يختصر الطريق ويعود إلى الشارع ثانية وينظر مرة أخرى إلى المعطف، ولكنْ من ناحية أخرى، أي: من الوجه مباشرة. بينما كان أكاكي أكاكيفتش يسير ومشاعر البهجة تغمره. كان يشعر كل لحظة بأن على كتفيه معطفا جديدا، بل وضحك عدة مرات من فرط سروره داخليا. وبالفعل، فقد كانت هناك منفعتان: أُولاهما أنه دافئ والأخرى أنه حسن. ولم ينتبه إلى الطريق أبدا. ووجد نفسه في الإدارة فجأة.

وفي غرفة الحاجب خلع المعطف وتفحّصه من جميع الجهات ووضعه في رعاية الحاجب الخاصة. ولا نعرف كيف عرف جميع من في الإدارة، فجأة، أن لدى أكاكي أكاكيفتش معطفا جديدا وأن معطفه السابق لم يعد له وجود. وفي اللحظة نفسها، هرول الجميع إلى غرفة الحاجب ليروا معطف أكاكي أكاكيفتش الجديد. وراحوا يهنئونه ويحيونه، حتى أنه في البداية أخذ يبتسم فقط، ثم شعر بعد ذلك بالخجل. وعندما أخذ الجميع، وقد أحاطوا به، يقولون إنه لا بد من تدشين المعطف الجديد وإنه ينبغي عليه على الأقل أن يقيم لهم جميعا حفلا، ارتبك أكاكي أكاكيفتش تماما ولم يعرف ماذا يفعل وبمَ يردّ وكيف يتملص. وبعد بضع دقائق، وقد احمرّ كله، راح يؤكد لهم، بحسن نية، أن هذا المعطف ليس جديدا أبدا وإنما مجرد معطف قديم. وأخيرا، قال أحد الموظفين، بل كان أحد مساعدي رئيس القلم، ربما لكي يُظهر أنه ليس متكبرا أبدا، بل ويتعامل مع من هم أدنى منه: «طيب، فليكن! أنا سأقيم لكم حفلا بدلا من أكاكي أكاكيفتش وأدعوكم اليوم لتناول الشاي. واليوم، بالمناسبة، عيد ميلادي». وعلى الفور هنأ الموظفون مساعد رئيس القلم وقبلوا دعوته بكل سرور. وأراد أكاكي أكاكيفتش أن يعتذر، ولكن الجميع راحوا يقولون إن ذلك لا يليق وإنه شيء معيب ومخجل، فلم يستطع أبدا أن يرفض الدعوة. وعلى العموم، فقد شعر، في ما بعد، بالسرور عندما تذكر أن ذلك سيتيح له فرصة السير مساء أيضا في المعطف الجديد. وكان هذا اليوم كله بالنسبة إلى أكاكي أكاكيفتش كأنما هو أكبر وأبهى عيد.

وعاد إلى البيت في أسعد حال. نزع المعطف وعلقه، بحرص، على الجدار، وقد ملى عينيه مرة أخرى من الجوخ والبطانة. ثم أخرج معطفه القديم عمدا بقصد المقارنة، ذلك المعطف الذي تهرّأ تماما. تطلع إليه فضحك هو نفسه منه؛ فما أبعد الفرق بينهما! وظل بعد ذلك، وطوال الغداء، يضحك كلما خطرت له حال معطفه السابق. وتناول الغداء بمرح ولم ينسخ شيئاً بعد الغداء. لم يمسك بأية أوراق، بل تمرغ في فراشه قليلا حتى هبط الظلام، ثم ارتدى المعطف وخرج إلى الشارع.

ومع الأسف فإننا لا نستطيع أن نقول أين كان يسكن الموظف الذي دعاه، فقد بدأت الذاكرة تخوننا بشدة، فاختلط علينا كل شيء في بطرسبورغ واندمجت كل البيوت والشوارع في الرأس، حتى أصبح من الصعوبة بمكان أن نستخرج منها شيئاً ما في صورة متسقة. وأيا كان الأمر، فإن الشيء الصحيح، على الأقل، أن الموظف كان يسكن في أحسن مناطق بطرسبورغ، وبالتالي بعيدا جدا عن أكاكي أكاكيفتش. كان على أكاكي أكاكيفتش، في البداية، أن يمر عبر بعض الشوارع المقفرة ذات الإضاءة الهزيلة. ولكن كلما اقترب من شقة الموظف أكثر صارت الشوارع أكثر حيوية وحركة وإضاءة. بدأ المارة يلوحون أكثر ولاحت السيدات الأنيقات وظهرت على الرجال ياقات من فراء السمور، ولم تظهر إلا نادراً الزخارف الشعبية الخشبية المليئة بالمسامير المذهبة. وعلى العكس من ذلك، كثر الحوذيون المندفعون بسرعة، بطواقيهم المخملية القرمزية وبزحافاتهم المطلية باللاك اللامع وبالأغطية المصنوعة من جلود الدببة. وكانت العربات ذات مقاعد الحوذية المزينة تنهب الشارع، وعجلاتها تصر على الثلج. وتطلع أكاكي أكاكيفتش إلى ذلك كله وكأنما يراه للمرة الأولى؛ إذ لم يخرج من منزله مساء منذ عدة سنوات. توقف، بفضول، أمام واجهة متجر مضاءة ليتفرج على لوحة كانت تصور امرأة جميلة تخلع حذاءها، كاشفة بذلك عن ساقها كلها، وكانت ساقا لا بأس بها أبدا. ومن خلفها أطل، من باب غرفة أخرى، رجل بسالفين ولحية جميلة تحت شفته. هزّ أكاكي أكاكيفتش رأسه وضحك ضحكة قصيرة. ثم مضى في حال سبيله. فهل يا ترى ضحك لأنه رأى شيئاً غير معروف له ولكنه رغم ذلك يترك في نفس كل من يراه حدسا ما؟! أم أنه ضحك لأنه فكر مثل كثيرين من الموظفين بهذه الصورة: «آه من هؤلاء الفرنسيين! ماذا بوسعك أن تقول؟ فهم إذا أرادوا شيئا ما… أقصد… فهو بالضبط… أقصد؟!»… وربما لم يفكر حتى في هذا، فمن الصعب أن تقحم نفسك في دخيلة إنسان ما لتعرف فيم يفكر. وأخيرا، وصل إلى البيت الذي كان يقطنه مساعد رئيس القلم.

كان مساعد رئيس القلم يعيش في بحبوحة من العيش؛ فعلى سلم المدخل كان مصباح مضاء وكانت شقته في الطابق الثاني. وعندما دخل أكاكي أكاكيفتش إلى الردهة رأى على الأرض صفوفا من الخفوف. وبينها، في وسط الغرفة، كان هناك سماور (بقراج -“مْقراج”) يغلي وينفث سحبا من البخار. وعلى الجدران علقت معاطف وأردية، كان من بينها معاطف بياقات من فراء السمور أو بطياتِ صدور من المخمل. وتناهى من وراء الجدار صخب ولغط أصبحا، فجأة، واضحين عندما فُتح الباب وخرج منه خادم يحمل صينية غاصة بالأكواب الفارغة ودورق حليب وسلة خبز مجفف. وكان واضحا أن الموظفين مجتمعون مدة طويلة وقد شربوا أول كوب شاي. وبعد أن علق أكاكي أكاكيفتش معطفه بنفسه داخل الغرفة، وفي الوقت نفسه لاحت أمام ناظريه الشموع والموظفون والغليونات وموائد لعب الورق، وأصمّ سمعه حديث متصاعد من جميع الجهات وجلبة مقاعد يحركونها؛ توقف في وسط الغرفة مرتبكا تماما، وهو يبحث ويحاول أن يجد لنفسه شيئاً يفعله. ولكنهم كانوا قد لاحظوا وجوده فاستقبلوه بالصياح ومضوا، على الفور، إلى الردهة وتفرجوا على معطفه مرة أخرى. ورغم أن أكاكي أكاكيفتش كان محرجا بعض الشيء؛ فإنه، إذ كان شخصا سليم النية، لم يستطع إلا أن يفرح وهو يرى أن الجميع يمتدحون المعطف. بعد ذلك تركوه ومعطفه بالطبع واتجهوا، كما هو متبع، إلى موائد لعب الورق. كان كل ذلك: الصخب واللغط وهذا الحشد من الناس، عجيبا بالنسبة إلى أكاكي أكاكيفتش. لم يكن يدري كيف يتصرف ولا ماذا يفعل بيديه وساقيه وجسمه كله.

وأخيرا، جلس إلى اللاعبين وتطلع إلى أوراق اللعب وحدق في وجه هذا وذاك. وبعد فترة، بدأ يتثاءب ويشعر بالملل، خاصة أنه قد حان، منذ ساعات، الموعد الذي كان عادة يأوي فيه إلى الفراش. وأراد أن يستأذن من رب الدار في الانصراف ولكنهم لم يسمحوا له، قائلين إنه لا بد من تناول كأس شمبانيا بمناسبة المعطف الجديد. وبعد ساعة قدّموا العشاء، المكون من سلطة روسية ولحم عجول بارد وكبد مهروسة وقطع بسكويت وشمبانيا. وأجبروا أكاكي أكاكيفتش على شرب كأسين من الشمبانيا أحس بعدهما بأن الجو في الغرفة أصبح أكثر مرحا، إلا أنه لم يستطع أبدا أن ينسى أن الساعة بلغت الثانية عشرة وأن وقت عودته إلى البيت قد حان منذ فترة. ولكي لا يحاول صاحب البيت أن يستبقيه بطريقة ما، خرج أكاكي أكاكيفتش من الغرفة بهدوء وبحث عن معطفه في الردهة، فوجده مع الأسف ملقى على الأرض، فتناوله ونفضه ونزع منه كل ما علق به من زغب ووضعه على كتفيه ونزل إلى الشارع.

كان الشارع لا يزال مضاء. وكانت بعض المتاجر الصغيرة، هذه النوادي الدائمة للبوابين وغيرهم من الناس، لا تزال مفتوحة. أما البعض الآخر، المغلق، فكان يصدر عنه رغم ذلك شريط ضوء طويل عبر شق الباب كله، ما كان يدل على أنها لم تخلُ بعد من تجمع بشري، إذ يبدو أن البوابين والسيّاس أو الخدم يوشكون على الانتهاء من أحاديثهم ورواياتهم، موقعين أسيادهم في حيرة كاملة بخصوص أماكن وجودهم. سار أكاكي أكاكيفتش مرح النفس، حتى أنه همّ بالركض فجأة لسبب مجهول وراء سيدة ما مرقت بجواره كالبرق وكان كل طرف من أطراف جسدها مفعما بحركة غير عادية. إلا أنه رغم ذلك توقف على الفور وسار كما في السابق بهدوء شديد. ودهش هو نفسه من ركضه. وسرعان ما امتدت أمامه تلك الشوارع الخاوية، التي لا تتسم بمرح خاص حتى في النهار، فما بالك في المساء! لقد أصبحت الآن أكثر خواء وعزلة. وميض المصابيح أضعف، إذ يبدو أن الزيت فيها أصبح قليلا وبدأت تلوح المنازل الخشبية والأسيجة. ولم يكن هناك أحد على الإطلاق. الثلج فقط هو الذي كان يلمع في الشوارع. ولاحت الأشباح السوداء الحزينة للأكواخ المنخفضة النائمة، بنوافذها الموصدة الشيش. واقترب من ذلك المكان الذي كان الشارع يتقاطع فيه مع ميدان لا نهاية له، لا تكاد المنازل تَبين في طرفه الآخر. وكان هذا الميدان يبدو مثل صحراء رهيبة.

ومن بعيد، من مكان لا يعلمه إلا الله، ومض ضوء في كشك حراسة بدا وكأنه قائم في آخر الدنيا. وهنا تراجع مرح أكاكي أكاكيفتش إلى حد كبير. ودخل الميدان بإحساس لاإرادي بالخوف، كأنما كان قلبه يحدس بشرا. ونظر خلفه وتلفت حواليه، فبدا ما حوله وكأنه بحر. فقال في نفسه: «كلا، من الأفضل ألا أنظر». وسار مغمض العينين، وعندما فتحهما ليعرف هل أوشك الميدان على الانتهاء أم لا، رأى أمامه فجأة، تحت أنفه تقريبا، شخصين بشوارب، ولكنه لم يستطع حتى أن يميز أي شخصين هما. وغامت عيناه وخفق قلبه بعنف. «ولكن هذا المعطف معطفي!»، قال أحدهما بصوت راعد وأمسك بياقة معطفه. وراد أكاكي أكاكيفتش أن يصرخ «النجدة!»، ولكن الآخر دس أمام فمه مباشرة قبضة بحجم رأس موظف ودمدم: «حاول فقط أن تصرخ». ولم يشعر أكاكي أكاكيفتش إلا وهما ينزعان عنه المعطف، ثم ركلاه ركلة قوية، فسقط على وجهه فوق الثلج ولم يعد يشعر بشيء أكثر من ذلك.

بعد دقائق عاد إلى وعيه، فقام على قدميه؛ ولكن لم يكن هناك أحد وأحس بأن الجو بارد وبأن المعطف ليس موجودا، فأخذ يصرخ، ولكن صوته، كما بدا له، لن يبلغ آخر الميدان. فانطلق أكاكي أكاكيفتش يركض في يأس، وهو لا يكف عن الصراخ، متجها، عبر الميدان، إلى كشك الحراسة مباشرة، حيث كان الدركي يقف متكئا على البلطة وهو يتطلع، في ما يبدو، بفضول ويريد أن يعرف أي شيطان دفع هذا الشخص إلى الركض نحوه صارخا من بعيد. وعندما بلغه أكاكي أكاكيفتش راح يصرخ بصوت مختنق بأنه نائم ولا يحرس شيئا ولا يرى كيف ينهبون الناس. فأجاب الدركي بأنه لم ير شيئا وبأنه رأى كيف استوقفه شخصان وسط الميدان ولكنه ظن أنهما من معارفه وأنه بدلا من السباب عبثا من الأفضل أن يذهب غدا إلى المفتش وسيعثر المفتش على من سرق المعطف.

عاد أكاكي أكاكيفتش إلى المنزل في اضطراب تام، فقد تبعثر شعره الذي تبقى لديه بكمية صغيرة عند صدغيه ومؤخرة رأسه، وكان جنبه وصدره وسرواله ملوثة بالثلج كلها. وعندما سمعت العجوز، صاحبة شقته، دقا رهيبا على الباب نهضت من فراشها على عجل وركضت بفردة شبشب واحدة في قدمها لتفتح الباب وقد شدت بإحدى يديها القميص على صدرها. ولكن عندما فتحت الباب تراجعت إلى الخلف، إذ رأت أكاكي أكاكيفتش في هذه الهيئة. عندما قص عليها ما حدث له أشاحت بيديها وأشارت عليه بأن يذهب مباشرة إلى مأمور القسم، لأن شرطي الحي سيخدعه، فسيعده بالبحث ثم يماطل بعد ذلك. أفضل شيء أن يذهب إلى المأمور مباشرة، بل إنها تعرف المأمور لأن الفنلندية التي كانت تعمل عندها طاهية أصبحت تعمل الآن عند المأمور مربية، بل إنه كثيرا ما تراه شخصيا عندما يمر بجوار منزلهم. كما أنه يتردد على الكنيسة كل أحد ليصلي وفي الوقت نفسه يتطلع إلى الجميع بمرح، ولذلك فهو على ما يبدو رجل طيب. بعد أن سمع أكاكي أكاكيفتش هذا القرار جر ساقيه حزينا إلى غرفته. أما كيف قضى ليلته فلنترك الحكم على ذلك لمن يستطيع أن يتخيل، ولو إلى حد ما، وضع شخص آخر. وفي الصباح الباكر مضى إلى المأمور فقيل له إنه نائم. وعاد في العاشرة، فقيل له ثانية إنه نائم. فعاد في الحادية عشرة فقيل له إن المأمور غادر البيت. فعاد ساعة الغداء، إلا أن الكتبة في المدخل لم يريدوا أن يسمحوا له بالدخول وأصروا على أن يعرفوا الغرض من زيارته وماذا يريد وماذا حدث. لكن أكاكي أكاكيفتش أراد، أخيرا، أن يبدي صلابة ولو مرة في حياته فقال، بلهجة قاطعة، إنه يريد مقابلة المأمور نفسه وإنهم لا يملكون حق أن يمنعوه من مقابلته وإنه جاء من الإدارة في عمل رسمي وإنه سيشكوهم. ولم يستطع الكتبة أن يقولوا شيئاً أمام ذلك، فذهب أحدهم لاستدعاء المأمور. وكان موقف المأمور من روايته عن السرقة غريبا للغاية؛ فبدل أن يوجّه اهتمامه إلى النقطة الأساسية في الموضوع راح يسأل أكاكي أكاكيفتش لماذا عاد في هذه الساعة المتأخرة؟ وهل لم يعرج في الطريق على أحد المنازل المشبوهة؟ حتى أن أكاكي أكاكيفتش أُحرج تماما وخرج من عنده وهو لا يعرف هل ستسير قضية معطفه كما ينبغي أم لا. لقد قضى هذا النهار كله غائبا عن العمل (المرة الوحيدة في حياته).

وفي اليوم التالي جاء شاحبا وفي “كبّوطه” القديم الذي أصبح أكثر بؤسا. وهزت قصة سرقة المعطف قلوب الكثيرين، رغم أنه كان هناك بعض الموظفين الذين لم يتورعوا حتى في هذه المناسبة عن السخرية من أكاكي أكاكيفتش. وقرروا على الفور أن يجمعوا له تبرعا، إلا أنهم جمعوا مبلغا تافها؛ لأن الموظفين كانوا قد أنفقوا الكثير في الاكتتاب لرسم صورة للمدير وفي شراء كتاب ما اقترحه عليهم رئيس القسم الذي كان صديقا للمؤلف. وهكذا جمعوا مبلغا تافها للغاية. وقرر أحدهم، بوازع الشفقة، أن يساعد أكاكي أكاكيفتش على الأقل بنصيحة طيبة، فأشار عليه بألا يذهب إلى شرطي الحي، إذ بالرغم من أنه قد يحدث أن يتمكن الشرطي، رغبة منه في كسب تقدير الرؤساء، من العثور على المعطف بطريقة ما، فإن المعطف رغم ذلك سيبقى في قسم البوليس ما لم يقدم أكاكي أكاكيفتش أدلة قانونية على ملكيته له. أفضل شيء أن يقصد أحد الأشخاص المهمين يستطيع، بالاتصال ومخاطبة من ينبغي، أن يدفع القضية بنجاح أكبر. ولم يكن أمام أكاكي أكاكيفتش من مفر، إنما ينبغي أن نعرف أن هذا الشخص المهم أصبح منذ فترة قريبة شخصية مهمة، أما قبل ذلك فكان شخصية غير مهمة.. على أية حال، فإن منصبه لا يعدّ حتى الآن مهمّا مقارنة بالمناصب الأخرى الأكثر أهمية؛ غير أنك ستجد دائما دائرة من الناس الذين يعدّون مهمّين فيما يبدو في عيون الآخرين غير مهم. على أية حال، حاولت هذا الشخص المهم أن يزيد أهميته بوسائل أخرى كثيرة، وبالتحديد فقد عمل على أن يستقبله الموظفون الصغار على السلم ساعة حضوره إلى وظيفته وألا يجرؤ أحد على الدخول إليه مباشرة، بل يمضي كل شيء وفق نظام صارم: يبلّغ المساعد الاعتباري سكرتير المحافظ ويبلغ سكرتير المحافظ المستشار الاعتباري أو شخصا آخر، وبهذه الطريقة يبلغ الأمر إليه. هكذا تنتشر عدوى التقليد إلى كل شيء في روسيا المقدَّسة ويحاول كل شخص أن يقلد رئيسه ويتشبه به. بل يقال إن مستشارا اعتباريا عندما عينوه رئيسا لإحدى الإدارات الصغيرة المستقلة، اقتطع لنفسه على الفور غرفة خاصة وسماها «غرفة الحضور» ووضع على بابها حُجّابا بياقات حمراء كانوا يمسكون بمقبض الباب ويفتحونه أمام كل وافد، رغم أن «غرفة الحضور» لم تكن تتسع لغير طاولة مكتب عادية.

لقد كانت أساليب وعادات الشخصية المهمة رصينة ومهيبة ولكنْ دون تعقيد. كانت الصرامة هي القاعدة الأساسية لنظامه، وكان يقول عادة «الصرامة، والصرامة، ثم الصرامة»، وعند الكلمة الأخيرة يحدق في العادة بأهمية في وجه من يخاطبه، رغم أن ذلك على أية حال لم يكن له أدنى مبرر، لأن الموظفين العشرة، الذين كانوا يشكلون كل الجهاز الحكومي للإدارة كانوا، حتى بدون ذلك، مرعوبين بدرجة كافية. فما إن يروه من بعيد حتى يتركوا أعمالهم ويقفوا في انتباه، منتظرين حتى يمر الرئيس عبر الغرفة. وكان حديثه العادي مع مرؤوسيه يتسم بالصرامة ويتألف، تقريبا، من ثلاث جمل: «كيف تجرؤ؟ هل تعرف مع من تتحدث؟ هل تفهم أمام من تقف؟».. على أية حال، كان في قرارته رجلا طيبا، لطيفا مع رفاقه، خدوما، إلا أن رتبة الجنرال أفقدته توازنه، فما أن حصل على رتبة الجنرال حتى ارتبك وضل طريقه ولم يعرف أبدا كيف يتصرف. فإذا حدث أن اجتمع مع أناس من مستواه كان يبدو إنساناً كما ينبغي، إنسانا مستقيما جدا، بل وحتى إنسانا غير غبي في كثير من النواحي. ولكنْ ما إن يوجد في مجتمع فيه أشخاص أدنى منه، ولو برتبة واحدة، حتى يصبح شخصا ميؤوسا منه. كان يركن إلى الصمت ويثير وضعه الشفقة، خاصة أنه هو نفسه كان يشعر بأنه كان من الممكن أن يقضي وقته بصورة أفضل بكثير. وكانت تتبدى في عينيه أحيانا رغبة قوية في المشاركة في أحد الأحاديث أو الانضمام إلى إحدى الحلقات الشيقة، فتصده عن ذلك فكرة أن ذلك لن يكون تنازلا كبيرا من جانبه! ألن يكون في ذلك رفع للكلفة!؟ ألن يكون في ذلك إهدار لأهميته!؟.. ونتيجة هذه الأفكار يظل دائما في حالة الصمت التي لا تتغير، فلا يتفوه إلا نادرا بأصوات أحادية المقاطع، حتى استحق لقب «أضجر إنسان». إلى هذه الشخصية المهمة توجه صاحبنا أكاكي أكاكيفتش، ووصل في وقت غير مناسب له أبدا، وإن كان على أية حال مناسبا للشخصية المهمة.

كان صاحبنا الشخص المهمّ في غرفة مكتبه يتحدث، وهو في غاية المرح، مع شخص جاء منذ طويل. وفي هذه الأثناء أبلغوه أن شخصا يدعى بشماتشكين يريد مقابلته. فسأل باقتضاب: «من القادم؟». فأجابوه: «أحد الموظفين». فقال الرجل المهم: «آه! فلينتظر، لا وقت عندي الآن». ومن المناسب هنا أن نذكر أن الرجل المهم قد كذب تماما؛ فقد كان لديه وقت، إذ إنه انتهى منذ زمن بعيد من الحديث مع زميله حول كل شيء، ومنذ زمن بعيد أخذت تتخلل حديثهما فترات صمت طويلة، وبين الحين والحين يربت أحدهما على ساق الآخر مرددا:

-هكذا يا إيفان إبراموفيتش!»..

نعم، يا ستيبان فارلاموفتيش!

ورغم ذلك، فقط أمَر الموظف بأن ينتظر لكي يُظهر لزميله، هذا الرجل الذي لم يمارس الخدمة منذ زمن بعيد واستقر في داره في القرية، كم من الوقت ينتظره الموظفون في الردهة. وأخيرا، وبعد أن شبعا من الكلام وبعد أن شبعا أكثر من الصمت ودخّن كل منهما سيجارا على كراسٍ وثيرة للغاية بمساند متحركة، قال، وكأنما تذكر فجأة للسكرتير الذي وقف بجوار الباب حاملا أوراقا ليقدم له التقارير: «نعم، أظن أن هناك موظفا ينتظر، أخبره بأنه يستطيع أن يدخل». وعندما رأى هيئة أكاكي أكاكيفتش المستكينة ومعطفه الرسمي القديم التفت نحوه فجأة وقال: «أي خدمة؟» بصوت قاطع حاسم تدرّب عليه من قبل في غرفته على انفراد أمام المرآة، قبل أسبوع من توليه منصبه الحالي ورتبة الجنرال. وكان أكاكي أكاكيفتش قد تملكه الوجل قبل ذلك بوقت طويل، فارتبك قليلا، ثم مضى يشرح له قضيته كيفما استطاع وعلى قدر ما سمحت له طلاقة لسانه، مع اللجوء أكثر من أي وقت سبق إلى استخدام كلمة «أقصد»، فقال إنه كان لديه معطف جديد تماما، وها قد نُهب بصورة لاإنسانية وإنه قصده لكي يتشفع له بما لديه «أقصد»… ولكي يخاطب السيد مدير الشرطة أو غيره من المسؤولين لكي يجدوا المعطف. ولسبب ما، بدت هذه اللهجة للجنرال خالية من الكلفة، فقال له بصوت قاطع:
-ما هذا!؟ يا سيدي المحترم، ألا تعرف النظام؟ إلى أين جئت؟ ألا تعرف كيف تسير الأمور؟ كان ينبغي قبل كل شيء أن تقدم طلبا في الإدارة، فيرفع الطلب إلى رئيس القلم، ثم إلى رئيس القسم، ثم إلى السكرتير، وعندئذ يرفعه السكرتير إلي.

-ولكن، يا صاحب المعالي (قال أكاكي أكاكيفتش محاولا أن يستجمع آخر ما تبقى لديه من الشجاعة، وهو يشعر في الوقت نفسه بأن العرق يتصبب منه بصورة فظيعة) أنا، يا صاحب المعالي، لم أجرؤ على إزعاج معاليكم إلا الآن، السكرتيرون.. أقصد… لا يُعتمد عليهم…

فقال الشخص المهم:

-ماذا؟ ماذا؟ ماذا؟ من أين جئت بهذه الجرأة؟ من أين جئت بهذه الأفكار؟ ما هذا التمرد الذي انتشر بين الشباب ضد الرؤساء والكبار؟

ويبدو أن الشخصية المهمة لم تلاحظ أن أكاكي أكاكيفتش قد جاوز الخمسين، وبالتالي فلو كان من الممكن اعتباره شابا فلا يعدو ذلك أن يكون أمرا نسبيا، أي بالنسبة إلى من هم في السبعين.

-أتدري لمن تقول هذا الكلام؟ هل تفهم أمام من تقف؟ هل تفهم ذلك؟ هل تفهم؟ إنني أسألك!

وهنا دق بقدمه رافعا صوته إلى طبقة عالية إلى درجة أنه حتى لو كان الواقف أمامه شخصا غير أكاكي أكاكيفتش لأصابه الرّعب. أما أكاكي أكاكيفتش فقد صُعق وترنح واهتز بدنه كل، ولم يتمكن أبدا من الوقوف. ولولا أن الحراس هرعوا راكضين وأسندوه لانهار أرضا. وحملوه من الغرفة، وهو بلا حراك تقريبا. أما الشخص المهم، وقد أرضاه أن تأثير كلماته فاق حتى توقعاته، وانتشى من فكرة أن كلمته قد تفقد الإنسان وعيه، فنظر بطرف عينه إلى صديقه ليعرف كيف ينظر إلى ما حدث، فرأى بإحساس لا يخلو من المتعة أن صديقه في حالة من القلق البالغ، بل وبدأ يشعر بالخوف.

لم يتذكر أكاكي أكاكيفتش مطلقا كيف نزل على الدرج وخرج إلى الشارع. ولم يكن يحس بيديه ولا بساقيه. لم يحدث له في حياته أن نهره جنرال بهذا العنف. وفوق ذلك جنرال ليس رئيسَه. سار في العاصفة الثلجية التي كانت تعربد في الشوارع فاغرا فاه وهو يتخبط بين الأرصفة. وهبت عليه الريح، كما العادة في بطرسبورغ، من الجهات الأربع كلها ومن جميع الحواري. وعلى الفور أصيب من البرد بورم في حلقه. وعندما وصل إلى البيت لم يكن في وسعه حتى أن يتفوه بكلمة. وتورم بدنه كله، فرقد في الفراش. إلى هذه الدرجة يكون التعنيف قويا أحيانا!

وفي اليوم التالي أصيب بحمى شديدة. وبفضل مساعدة جو بطرسبورغ الرحيم سار المرض بأسرع من المتوقع. وعندما جاء الطبيب وجس نبضه، لم يجد ما يشير به سوى الكمّادات، فقط حتى لا يبقى المريض بدون عناية الطب الخيّرة. وعلى العموم، فقد أعلن الطبيب ساعتها أن نهايته المؤكدة ستحل بعد يوم ونصف. وبعد ذلك قال لربة الدار: «أما أنت، يا سيدتي، فلا تضيعي الوقت وجهّزي له من الآن تابوتا من خشب الصنوبر، لأن خشب البلوط سكون غاليا بالنسبة إليه». فهل سمع أكاكي أكاكيفتش هذه الكلمات المشؤومة؟ وإذا سمعها فهل كان لها عليه تأثير مذهل؟ وهل شعر بالأسى على حياته الشقية؟ نحن لا نعرف عن ذلك شيئاً، لأن أكاكي أكاكيفتش كان طوال الوقت يهذي في غيبوبة الحمى. وتوالت على ذهنه الرؤى بلا انقطاع، كل رؤيا أغرب من سابقتها. فمرة يرى الخياط بيتروفتش فيوصيه بتفصيل معطف بفخاخ للصوص الذين كانوا يبدون له طوال الوقت تحت السرير، فكان يدعو ربة الدار كل لحظة لتنتشل لصا حتى من تحت البطانية. وتارة كان يسأل لماذا يعلقون كبّوطه القديم أمامه، فلديه معطف جديد. وتارة يخيل إليه أنه يقف أمام الجنرال، يصغي إلى تعنيفه وهو يقول «آسف، يا صاحب المعالي». وأخيراً، كان يسب متفوها بأفظع الكلمات، حتى أن ربة الدار العجوز كانت ترسم علامة الصليب، إذ لم تسمع منه قبل ذلك كلمات مثل هذه أبدا، خاصة أن هذه الكلمات كانت تأتي مباشرة بعد عبارة «يا صاحب المعالي». وبعد ذلك صار يهذي بأشياء لا معنى لها تماما، فلم يكن يُفهم منها شيء. الأمر الوحيد الذي كان يبدو واضحاً أن هذه الكلمات والأفكار المشوشة كانت تدور حول المعطف فقط.

وأخيرا، لفظ أكاكي أكاكيفتش، المسكين، آخر أنفاسه. ولم توصد غرفته أو ممتلكاته بالأختام لأنه، أولا، لم يكن هناك ورثة، وثانيا، لم يتبقّ لديه من الميراث إلا القليل.

وخلت بطرسبورغ من أكاكي أكاكيفتش، وكأنما لم يكن موجودا فيها أبدا. اختفى وغاب ذلك المخلوق الذي لم يكن له من يحميه، والذي لم يكن عزيزا على أحد ولا شيقا بالنسبة إلى أحد، والذي لم يجذب إليه انتباه حتى عالم الطبيعة، الذي لا يدع ذبابة عادية دون أن يغرس فيها دبوسا ويفحصها تحت المجهر؛ ذلك المخلوق الذي تحمل بإذعان سخريات الكتَبة الموظفين، والذي واراه التراب دونما علة خارقة. ولكنه رغم ذلك، ولو قبيل نهاية عمره، زاره ضيف جميل في صورة معطف بعث الحيوية، ولو للحظة، في تلك الحياة البائسة. ذلك المخلوق الذي داهمته، في ما بعد، الكارثة القاسية كما داهمت القياصرة والحكام.

وبعد بضعة أيام من وفاته، أرسلوا حارسا من الإدارة إلى شقته ليأمره بالحضور فورا، فالرئيس يطلبه.. ولكنْ كان على الحارس أن يعود صفر اليدين قائلا إنه لا يستطيع بعد الآن أن يأتي! وعلى هذا السؤال «لماذا؟» أجاب بالكلمات التالية «هكذا! فقد مات ودُفن منذ أربعة أيام». وهكذا عرفوا في الإدارة وفاة أكاكي أكاكيفتش. وفي اليوم التالي كان يجلس في مكانه موظف جديد، أطول منه قامة بكثير، يكتب الحروف بخط ليس باستقامة أكاكي أكاكيفتش، بل بميل وانحراف أكثر.

ولكنْ من كان يتصور أن هذا ليس كل شيء عن أكاكي أكاكيفتش وأنه كان مقدرا له أن يعيش عدة أيام صاخبة بعد وفاته، وكأنما مكافأة له على حياته التي لم ينتبه إليها أحد؟ ولكن هذا ما حدث. وها هي قصتنا البائسة تنتهي، فجأة، نهاية خيالية.

انتشرت في بطرسبورغ، فجأة، شائعات تقول إنه عند جسر «كالينكين»، وفي ما وراءه بكثير، يظهر في الليالي ميت في صورة موظف يبحث عن معطف مسروق. وبحجة هذا المعطف المسروق ينتزع كافة المعاطف من على جميع الأكتاف، غير آبه للَقب أو لرتبة، سواء كانت بياقات من فراء القطط أم السنجاب أم مبطنة بالقطن أم معاطف فراء من جلد الثعالب أو الدببة. وباختصار، كافة أنواع الفراء والجلود التي ابتكرها البشر ليستروا بها أنفسهم. وقد نظر أحد موظفي الإدارات في عينَي ذلك الميت وعرف فيه على الفور أكاكي أكاكيفتش.. غير أن ذلك أصابه بفزع شديد، حتى أنه ولى هاربا بكل قواه، ولهذا لم يتمكن من التدقيق جيدا، بل رآه فقط وهو يلوّح له من بعيد بيده مهددا. وصدرت الأوامر للشرطة بالقبض على الميت بأية وسيلة، حياً أو ميتا، ومعاقبته بأقسى العقاب، ليكون عبرة للآخرين. وكادوا أن يفلحوا في الأمر؛ ولكننا رغم ذلك تركنا تماما ذلك الشخص المهم، الذي يكاد أن يكون في الحقيقة سبب الاتجاه الخيالي الذي سارت فيه هذه القصة، الحقيقية تماما على أية حال.

إن واجب العدالة يتطلب منا، قبل كل شيء أن نقول إن الشخص المهم سرعان ما أحس بنوع من الأسف بعد انصراف أكاكي أكاكيفتش المسكين، الذي أفرغ فيه ذلك التعنيف القاسي؛ فلم يكن الإحساس بالشفقة غريبا عليه وكان قلبه قادرا على إبداء كثير من المشاعر الطيبة، رغم أن رتبته كانت تعوقه كثيرا عن البوح بها. فما إن خرج زميله الزائر من غرفة مكتبه حتى انصرف تفكيره إلى أكاكي أكاكيفتش المسكين. ومنذ تلك اللحظة كان يتخيل كل يوم تقريبا أكاكي أكاكيفتش الشاحب الذي لم يتحمل تعنيفه الصارم. وأقلقه التفكير فيه إلى درجة أنه قرر، بعد أسبوع، أن يرسل إليه موظفا ليعرف أحواله وهل يستطيع حقا أن يساعده بطريقة ما. وعندما أبلغوه أن أكاكي أكاكيفتش قد عاجله الموت مصابا بالحمى، اعتراه الذهول وسمع صوت ضميره يؤنّبه وظل، طوال اليوم، معتل المزاج. وأراد أن يسرّي عن نفسه بصورة ما وينسى ذلك الانطباع المقبض، فتوجه ليقضي المساء عند أحد زملائه وجد عنده جماعة مُحترَمة. والأهم من ذلك أن الجميع هناك كانوا من الرتبة نفسها تقريبا، فلم يكن ثمة شيء يقيد تصرّفاته، وكان لذلك تأثير مدهش على حالته النفسية، فانطلق وأصبح لطيفا ولبقا في حديثه. وباختصار، قضى المساء على نحو طيب للغاية. وعلى العشاء شرب كأسي شمبانيا، تلك الخمرة المؤثرة تأثيرا لا بأس به في ما يخص المرح، كما هو معروف. ومنحته الشمبانيا ميلا إلى شتى أنواع المفاجآت، وبالتحديد فقد قرر ألا يعود إلى المنزل، بل يمضي إلى سيدة معروفة تدعى كارولينا إيفانوفنا، وهي سيدة في ما يبدو من أصل ألماني، كان يكنّ لها مشاعر صداقة خالصة. ومن الجدير بالذكر أن الشخصية المهمة كان رجلا قد جاوز الشباب وزوجا طيبا ورب أسرة محترما. وكان ابناه، وأحدهما يعمل عنده في الإدارة، وابنته اللطيفة، البالغة ستة عشر عاما وذات الأنف الأعقف قليلا، ولكنه جميل، يقبلان عليه كل يوم ليلثما يده قائلين «bonjour papa». أما قرينته، وهي امرأة لا تزال نضرة، بل وحتى ليس فيها ما يعيب، فكانت تعطيه يدها أولا ليلثمها ثم تقلبها على الوجه الآخر لتقبّل يده هو. ولكن الشخصية المهمة، الذي كان على أية حال راضيا تماما عن الملاطفات العائلية المنزلية، وجد من اللائق أن تكون له صاحبة للعلاقات الودية، في القسم الآخر من المدينة. ولم تكن هذه الصاحبة أفضل أو أصغر سنا من زوجته، ولكن مثل هذه الألغاز توجد في الدنيا، وليس من شأننا أن نناقشها. وهكذا هبط الشخص المهم على الدرج واستقل الزحافة وقال للحوذي «إلى كارولينا إيفانوفنا». أما هو فتغطى بالمعطف الدافئ في جلسة وثيرة للغاية وبقي في ذلك الوضع اللطيف. وتذكر، وهو في غاية الرضا، كل اللحظات المرحة في الأمسية التي قضى وكل الكلمات التي أثارت ضحكات تلك المجموعة الصغيرة، وردد كثيرا منها بصوت خافت، فوجدها جميعا مضحكة كما كانت. ولذلك فليس من الغريب أن يضحك هو نفسه من كل قلبه. ورغم ذلك كانت تنغص عليه أحيانا ريح حارة متقطعة تهب فجأة من حيث لا يعلم إلا الله، ولسبب لا يدريه أحد، فتلهب وجهه وتلقي عليه بقطع من الثلج وتنشر، كما الشراع، ياقة المعطف أو تلقي بها فجأة بقوة رهيبة على رأسه، فتكلفه عناء لا ينتهي في محاولة التخلص منها.

وفجأة، أحس الشخص المهم بأحد ما يمسك بياقة معطفه بقوة. وعندما التفت رأى رجلا قصير القامة في معطف رسميّ قديم مهترئ، فعرف فيه، لرعبه، أكاكي أكاكيفتش. كان وجه الموظف شاحبا بلون الثلج وبدا ميتا تماما. ولكن رعب الشخص المهم فاق كل الحد بعدما رأى فم الميت يتلوى منفرجا وتهب منه عليه رائحة القبور الرهيبة ويلفظ هذه الكلمات «آه! ها أنت ذا أخيرا! أخيراً أنا… أقص… أمسكتُ بك من ياقتك! معطفك بالذات هو ما أحتاج إليه! لم تسعَ إلى استرداد معطفي، بل وعنّفتني. حسنا! هات الآن معطفك!»..

وكاد الشخص المهم المسكين أن يموت؛ أحس برعب شديد إلى درجة أنه بدأ يخشى، وليس دون مبرر، من أن تكون قد أصابته نوبة نفسية. وأسرع إلى نزع معطفه بنفسه عن كتفيه وصرخ في الحوذي بصوت غير طبيعي «أسرع إلى البيت بكل قواك!».. وعندما سمع الحوذي نبرة الصوت التي لا تتردد عادة إلا في المواقف الحاسمة، بل وتصاحبها حركات أكثر انفعالا، دفن رأسه بين كتفيه احتياطا ولوح بالسوط واندفع بالعربة كالسهم. وبعد ست دقائق أو أكثر قليلا كان الشخص المهم أمام مدخل بيته. وصل شاحبا ومفزوعا وبلا معطف إلى بيته، بدل أن يصل إلى كارولينا إيفانوفنا. وجر ساقيه كيفما اتفق حتى وصل إلى غرفته. وقضى ليلته في اضطراب شديد، حتى أن ابنته قالت له في صباح اليوم التالي، وهم يتناولون الشاي: «أنت اليوم شاحب جدا يا بابا». ولكنْ «بابا» لزم الصّمت ولم يخبر أحدا بما حدث له وأين كان وإلى أين كان ينوي الذهاب. لقد ترك هذا الحادث أثرا قويا في نفسه، بل إنه أصبح نادرا ما يقول لمرؤوسيه «كيف تجرؤ؟ هل تفهم أمام من أنت؟».. وحتى إذا قالها فما كان يفعل إلا بعد أن يستمع أولا إلى شرح الموضوع.

ولكن الأمر الأجدر بالملاحظة أنه منذ تلك الساعة كفّ الميت الموظف تماما عن الظهور، إذ يبدو أن أحدا ما ينتزع المعاطف من على الأكتاف. ولكن كثيرا من رجال الأعمال الحريصين لم يريدوا أبدا أن يركنوا إلى الطمأنينة وراحوا يرددون أن الميت الموظف ما زال يظهر في أطراف المدينة البعيدة. وبالفعل، فقد رأى أحد رجال الدرك في حي «كولومنسكي»، بعينيه، شبحا يظهر من خلف أحد المنازل، بيد أنه لم يتمكن من إيقاف الشبح، بل سار خلفه في الظلام إلى أن التفت الشبح خلفه أخيرا وتوقف وسأله: «ماذا تريد؟».. وأظهر له قبضة لا تجد لها مثيلا لدى الأحياء. فقال الدركي «لا شيء!» وعاد أدراجه من فوره. كان الشبح أطول بكثير بشوارب هائلة. ومضى متجها، كما بدا، نحو جسر «أوبوخوف»، ثم اختفى تماما في ظلام الليل.

***
هوامش
(1) رتبة مدنية في روسيا القيصرية من الرتب الدنيا تعادل رتبة النقيب العسكرية.
(2) رتبة مدنية تعادل رتبة نائب مدير الإدارة.
(3) رتب مدنية في روسيا القيصرية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *