إدريس اعفارة (أبو العيال)*
يحلو للمبدع أحيانا، شاعرا كان أو ناثرا، أن يجعل سارد عمله يتكلم بضمير الحاضر، وعند ذاك يلتبس الأمر على بعض القراء، فيحسبون أن الكاتب يبوح بآماله وآلامه وهذا ممكن أحيانا. فليس المبدع محظورا من التغني بما يضطرم في دواخله، ولكن البوح الفني أعلى مرتبة من مجرد يوميات أو سيرة ذاتية لكاتبها، إنه عمل فني ينقل لنا تجربة إنسانية قد نجد فيها بعضنا؛ لكن هناك من يبالغون في تلفيق تهمة الذاتية للكاتب، وقد يتهمونه بالفسوق والعصيان، وإنه، والله، لَعَين البهتان.
الشاعرة عائشة التيمورية

لاحظوا معي أنموذجا لهذا البوح الفني الذي سبق عصره.. ولدت الشاعرة عائشة التيمورية في 1840 وتزوجت في 1854، وتوفيت في 1902، تقول هذه الشاعرة:
حيِّ الرفاق وصِفْ لهم أشواقي
وحدّث الركب عن تسكاب آماقي
وبلّغي يا صبا إن جزت نحوهم
إني مقيم على عهد الهوى باق
كيف اصطباري وأحشائي بها حرق؟!
من جذوة ما لها من حرها واق
صنعت هذا “البوح” قبل أن تخرج المرأة العربية إلى الحياة العامة، ولم يتهمها أحد بالفجور ولا بأنها للتقاليد نَكور.. قالت هذا البوح قبل أن يقول شاعر النيل حافظ إبراهيم (توفي في 1932) القصيدة التي منها:
الأم مدرسة إذا أعددتها
أعددت شعبا طيب الأعراق
والتي يستدرك فيها بقوله:
أنا لا أقول دعوا النساء سوافرا
بين الرجال يجلن في الأسواق
يفعلن أفعال الرّجال لواهياً
عن واجبات نواعس الأحداق…
والعجيب أن القصيدتين اتفقتا في حروف القافية، فقافيتاهما قافية الرويّ ومردوفة وموصولة بمد، والجامع بينهما حرف القاف، والفاصل بينهما جبل قاف، وما زال بعضنا… ينوؤون تحت ثقل جبل قاف!
