سعيد جعفر
الذي أشار على المتحكمين في صناعة الرأي العام بالتحكم عن طريق التفاهة وتتفيه القيم ضعيف الرؤية ومجنون وقد يكون لاوطنيا حتى.
نقول بمسؤولية كبيرة أن هذا التوجه خاطئ وأن من يملكون سلطة إيقاف هذا التوجه لا بد أن يتصرفوا حتى لا تتحول التفاهة إلى منهج في التفكير وفي التدبير وفي السلوك.
إن التفاهة لا زالت لحد الساعة مجرد تكتيك مرحلي مفهوم لوقف انتشار الوعي الذي ينتشر عند فئات واسعة من الشباب بفعل التحول الذي مس قنوات التنشئة الاجتماعية في العقد الأخير والذي يعزى إلى الإعلاميات ووسائط الاجتماعي والتي وفرت للأفراد قيما مناقضة للقيم التقليدية التي تم الحرص على توارثها بين الأجيال من طرف السلطة السياسية.
إن القاعدة هي أن من يحكم ينشر القيم ومن الجيد أن يؤمم هاته القيم، ورغم أن هذا سيظهر كنوع من الشمولية القيمة، فإنه أبان عن نجاح وفاعلية في المجتمعات المتصلة كما هو الحال في المجتمعات الآسيوية حيث ثمة تغيير داخل الإطارات الأخلاقية المتوارثة.
وقد جرب المغرب لعهود طويلة هذا التمرين مما أكسب الشخصية المغربية والهوية المغربية تفردا خاصا؛ ورغم أن المستعمر الفرنسي حاول فرض قيمه الخاصة التي تعكسها إدارته ولغته وسياسته فإن أقصى ما وصله هو مجاورة قيمه للقيم الأصلية للمغاربة ولم ينجح نهائيا في إزاحتها وإحلال قيمه كما فعل مع الجزائريين مثلا.
لقد فعلت السلطة السياسية هذا وسط نفس الإطارات التقليدية ولهذا بقدر نجاحها في ضمان توارث نفس القيم نجحت في ضبط مسارات إنتاج ونشر وتداول هذه القيم، ورغم أنها ستجد نفسها لاحقا في مواجهة منظومات قيم معارضة اشتراكية علمانية وأخرى ليبرالية فإنها نجحت في النهاية بفضل خبراتها المتراكمة في التدبير وبغير قليل من العنف المادي والرمزي في وقف تقدم القيم المضادة في المجتمع بل وحتى احتواء هذه القيم والتكيف معها وتكييفها.
ولا يبدو أن السلطة السياسية حادت عن التوجه في مواجهة المنظومات القيمة الأخرى اللاحقة حماية لشرعيتها في إنتاج ونشر القيم والحكم عبرها.
إن ما تتم مواجهته اليوم هو أن القيم المضادة لم تعد تنبع من تعبيرات فكرية وثقافية وسياسية داخلية، فهذه مقدور على احتوائها وحتى إفراغها من قوتها، إن القيم الجديدة مصدرها خارجي وهي تغرق المجتمع بشكل واسع ومتدفق ويصعب على آليات وأجهزة الضبط السياسي والقانوني والثقافي أن تبطئ من سرعته ومنسوبه رغم المحاولات المتكررة في هذا الصدد.
لقد تمت المحاولة في وقت معين عبر قانون لضبط ما ينشر على مواقع التواصل الإجتماعي، ورغم أنه تم تقديم الأمر على أنه تقنين ضروري لحقل غير خاضع لسلطة القانون بل وأنه الحقل الوحيد غير خاضع للقانون، فإن ذلك لم يكن كافيا لإقناع الناس بشرعيته وظهر أنه كان يستهدف في العمق المجهول الذي فتحه العالم الجديد من القيم المختلف كليا عن القيم التقليدية التي رعتها السلطة السياسية والتي ظهر أنها مهددة.
وفي مواجهة هذا الواقع الجديد الذي نبه خبراء كثيرون إلى أنه سيحدث تحولات جذرية في بنيات التفكير والقيم والبنيات الثقافية وسيكون له وقع مهول على بنيات السياسة والحكم في كل البقاع (فيليب كيو مثلا) ارتأى البعض إلى تبني أسوأ الطرق وأكثرها فظاعة في مواجهة هذا الواقع.
لقد تم للأسف اعتماد نظام التفاهة لوقف دينامية التفكير في المجتمعات بهدف ثني الناس عن النظر بعيون مفتوحة في الواقع.
لقد كنا إلى حد قريب ننظر إلى دفع الناس لتفسير الذات والعالم بشكل ميتافيزيقي ولاهوتي وخرافي نوعا من الاستلاب الفكري للناس وترهيبهم واخضاعهم لقوى فوق طبيعية بهدف التحكم فيهم، وخاض الواقعيون معارك من أجل تجاوز إكراه الناس باسم السماء و القوى الفوق طبيعية والخرافية، ولكن لا أحد منا تصور أن هذا كان أسلوبا كيفما كان الحال يمكن مواجهته فكريا ومنهجيا.
قبل أن يظهر لنا نظام التفاهة هذا أننا كنا مخطئين جدا. لقد اكتشفنا أن هذا النظام متحول وأنه لا يقتل فقط خصومه فهو يقتل حتى صانعيه وبعد ذلك يكسر الإناء الضخم الذي يحتضنه ليغرقنا جميعا.
هل بالإمكان اليوم إيقاف آثار التفاهة التي شملت كل شيء وكل المجالات وصارت كل شيء؟
لا.
إن روتيني اليوم صار واقعا يوميا في السياسة وعندما تصبح السياسة روتينا يوميا فهذا يعني كل شيء.
*محلل سياسي
