عبد الرزاق بوتمُزّار

 

اليـوم الـ12

إذا كان نهارُ مرّاكشَ في هذه الفترة من العام لافحاً ولا يُشجّع على شيء غير مُلازَمة البيت في انتظار “الله أكبرْ”، فإنّ للَيلِ المدينة سحرا خاصّاً. دأبتُ منذ مُدّة، وحتى خارج شهر الصيام، عـلى تقسيم اليوم شطرَين: النهار في البيت والليل خارجه. لا يُمكن المـرءَ، على أيّ حال، أن يُمضيّ كـُلّ الوقتِ بين أربعة جدران..

وصلت إلى المقهى متأخّرا. وجدتُ كمال جالسا وحده تحت إحدى شُجيرات الفضاء. سحبتُ كرسيا وجلستُ بالقرب منه. خضنا فـي أحاديث جانبي،ة ونحن ننفث دخانا. كانتْ هناك مباراة في كرة القدم بين الفتح الـرّباطي والبنزرتي التـّونسيّ. التحق بنا حبيب الله، ثم طارق، بعـد ذلك. اقترح كمال أن نقترب أكثرَ من الشّاشة.
-لكنّك تعرف أنني لا أهتمّ كثيرا بكرة العالم الخامس ولا أشاهد مبـارياِتها..

قـلتُ ضاحكاً. أجابني، وهو يُرتّب ما تبقى من مشروباتنا فـوق طاولة دائرية صغيرة.

-أودّي غيرْ تّساعْد مْعانا، أخّا ميسّي، عافاكْ، راهْ هادشّي اللّي عـْطى الله هادْ السّاعة..

وكـانت العشرُ دقائق الأولى من المباراة كفيلة بأنْ تؤكد، بمـا لا يدع مجالا للشك، أنّ من الأفضل للمرء ألا يتابع كـُرة هذا العالَم، كما كنتُ أردّد كلما أردتُ إغـاظة أحدهم أو إضحاكه. بعـد دقائقَ من مباراة مُملة لم أحتفظ منها شخصيا بغيرِ صـورة لاعب (بقناع) ناورَ وحاولَ، وحيداً، أنْ “يفعـل شيئاً”، تسـاءل كمال، بنبرة غـاضبة:

-طاعْة اللهْ، بيـتْ هيرْ نـْعرفْ.. واشْ هادْ الناسْ ما كـيتـّفرّجُـوشّ فْالكرة ولا كيفاش!؟

-كون كانو تيتّفـرّجـُو كون تعلـّمو يْلعبُوها..
أجابه طارق، وهو يتطلع إلى النادل:

-لله إلى ما جيبْ لينا شي كارطة نْدُوّزو بيها هادْ الفقـْصة.. ياكْ ألخّوتْ؟

وبدأتْ جولة من اللعب، لعب الورق على إيقاع صوتِ مُعلق المباراة، الذي سـرعان ما طغتْ عليه أصواتُ الزّبائن..

الثانية عشرة ليلاً. أغادر المقهى. أشير إلى أول تاكسي أصادف.

-السّلام عليكم، لمدينة، الله يخليك.

توقعتُ أن يلفّ يسارا عنـد نهاية الشارع، كي يَعبر من “أكدال” ويواصل نحو المْدينة، عبْر شوارعَ واسعة وسلِسة. لكنه لفّ يمينا وسار فـي اتجـاه بابْ احمْر. مرّ بمحاذاة مقبرة بابْ اغماتْ، ثمّ جْنانْ العافْية. (لمـاذا تختارون هذا الطـّريق بدَل الآخـر، الأوسع والأصلح؟).. كنتُ أودّ أن أسأل لكنْ لاحتْ لي بناية في طـور البناء قرب السّور الفاصل بين الحيّيْن. سألت:

-جـامْع هذا، لا؟

-وايّيهْ، نـْعم أسّ.. جامْع داكـْشّي عْـلاشْ تعطّلو فيهْ. عْـرفت شحالْ هادِي وْهومـا كيصلحُو فيه!..

نطت العربة فوق “ظهرِ حمار” من تلك “العقباتِ التي ابتـلى بها الله البلاد.. تَحرّكَ ما فـي أحشائي مِـن سوائلَ وكرموسَ ودخـّان. صـعد الجمـيعُ صوب فمي..
(لماذا تـُصرّون على السياقة في هذه الطرقات “المُهترئة” إلا مِـن هذه “الـضّـُوضانْ”؟)..
(……….)
المْـلاحْ..

-أمّا هادْ الطّريقْ، هيّ، ما كايْن لاشْ يْصَاوبُوها؟
استفزّه السّؤال.
-يْصاوْبوها؟ ما كاينْ لاشْ، نعمْ أسّ.. وْكونْ لـْقـاوْ كونْ طلقُو عـْلى مّـاليها الدّوا.. شـُوفْ (مُشيراً إلى “كـارّو” -عربة مجرورة).. هادْ الطريقْ راهْ تيدُوزُو فيها غيـرْ بحالْ هادو.. حْـتّى تْكون تيْـدوزْ فيها غيرْ لحديدْ الحِيّ ويْصلحوها!..

-ولكـنْ راهْ ماشي هاكا كيخْدمُو النّاسْ الطّرْقانْ ديالْ مْدينة سياحيّة.. خـاصّ مْنينْ مّـا بْغيتِ تـْدوزْ للمْدينـةة تْلقـى طريقْ مْصلوحة توصّْلكْ؟!

نظر إليّ، بلحيته الكثة الطويلة، نظرة مُتّقدة:
-خـاصّ اللّي يْخدمْ الوطَنْ.. كيفْ مّا كـانْ المَكانْ، فيهْ السّياحة أوْ مّـاليهْ فقط، بْلا عُنصريّة.. الجّيلْ اللـّي يْخدمْ هادْ الوطَنْ ما زالْ ما كاينْشّ..

نفحته نقوده. وامتطيتُ تـاكسي كبيرا نزولا صـوب لمحاميدْ.

الثـّانية عشرة والنّصف. ثلاثة عصافير نائمة. عصفوران صاحيان.. طاجين يسخُن فوق نار هادئة. ومرّاكش -الليل كتاب مفتوح، زمَنٌ تتمنّاه لا مُنتهيّاً..

الخامسة وخمسون دقيقة. ينطلق صوتٌ آليّ ليُوقظَ الجسدَ الواهِن مِن غفوةٍ ليليّة قصيرة. قطراتُ ماء. نظراتٌ صامتة. ثلاثـة عصافير نائمة…
(…)
قطارُ السّابعة يتحرّك صعوداً نحو مُدن الاقتصاد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *